مسألة الإرث الإنساني بين دروس الماضي وتدابير المستقبل

خميس, 2025/11/27 - 20:59
الهادي محمد المختار النحوي

كثر الحديث هذه الأيام عن موضوع الإرث الإنساني وطرح ما يمكن أن يعبر عنه بآليات "جبر الضرر" خاصة في البعد المادي المالي. ونظرا لأهمية هذا الموضوع وآثاره على حاضر ومستقبل البلد وأمنه الاجتماعي فسأحاول طرح المسألة من خلال ابعادها الأخلاقية والدينية والاجتماعية والإنسانية . 

كان من حكمة الله جل وعلا أن خلق البشر ألوانا وأجناسا وألسنة مختلفة قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ وقال تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ )) ومع هذا التنوع الذي جاء لحكمة فإن النصوص الشرعية أكدت في القران والسنة على أنه لا ميزة ولا فضل لبشر بسبب لونه أو لسانه أو غير ذلك من أوجه الاختلاف وإنما بالتقوى وبالعطاء وبنفع الناس والإصلاح بينهم ويمكن أن نجزم اليوم بأنه لا يوجد شعب في أي بلد من بلدان الدنيا متجانس تماما ثقافة ولسانا ودينا، فلم يبق، والحال هذه، إلا أن تحسن الحكومات والشعوب التعايش واستثمار التنوع باعتباره مصدرا للقوة والثراء وليس مصدرا للشقاق والفتن.
 إن الحروب والفتن التي وقعت بين المجتمعات التي تتعدد فيها الأعراق والثقافات وقعت بسبب سوء إدارة التنوع وأما تلك التي نجحت في التعايش السلمي والعدل فيما بينها فإنما نجحت بسبب حسن إدارة هذا التنوع. ولعل حسن إدارة التنوع ينطلق من التذكير بثلاث زوايا كل واحدة منها كفيلة بتامين التعايش والانسجام  وهي: دائرة الإنسانية ودائرة الوطن ودائرة الدين. وإذا نظرنا إلى تركيبة المجتمعات فإننا قد نجد فيها مجتمعات متعددة الأديان ومتعددة الألسن والثقافات أما في بلادنا فقد منّ الله علينا بالإسلام الذي وحدنا بغض النظر عن تنوع أعراقنا.
وإذا حصل خلل في التعايش فإن سبيل معالجة الخلل تكون بالتواصل أولا ومن خلال دوائر أساسية تعزز هذا التواصل وهي  
التوافق والاحتواء والإيثار وفي طي هذه الزوايا الثلاثة إحساس بالمسؤولية واحترام للآخر وحرص على عدم إلغائه أو إقصائه
ولعل إحدى الإشكالات الكبرى في مسألة التعايش هي القصور في مجال التواصل بين الأعراق والفئات وهناك حكمة جميلة من أدبيات بعض الفرق والمذاهب الإسلامية تركز على ثلاث مراحل في إدارة الاختلاف  ألا وهي: "التعرف والتعارف والاعتراف"، أما التعرّف فيعني أن تتعرف على شريكك في الوطن وفي المكان وبعد التعرّف المتبادل نصل إلى مرحلة التعارف وهي المعرفة المتبادلة للشريك بصورة جلية واضحة بعيدا عن الانطباعات المبنية على القراءة الافتراضية الخاطئة عن الشريك، وبعد التعرف والتعارف نصل إلى مرحلة الاعتراف أي أنك تعترف لشريكك في الإنسانية والوطن وقبل ذلك في الدين بخصوصياته وما يميزه عنك بطريقة إيجابية لا بطريقة المفاصلة والمغالبة.
فهل طبقنا فعلا هذا المنهج (التعرف والتعارف والاعتراف) في علاقاتنا بالأعراق الأخرى في مجتمعنا وبلدنا؟ 
ربما يكون غياب تطبيق هذه القاعدة بمراحلها الثلاث هو أحد أسباب الاشكالات حتى لا نقول الصدامات التي تظهر من وقت لآخر بين مكونات مجتمعنا.
إن من دواعي إدارة الخلاف بطريقة إيجابية العودة إلى التاريخ ودراسته ومعرفة كيف نسج الآباء علاقاتهم، ولا أظن أن من رجع للتاريخ إلا سيجد أنها كانت علاقات طيبة ملؤها المحبة والاحترام وإن شابها بعض الدخن او الهنات والثغرات التي تحصل في اي مجتمع بشري، فيجب أن نستفيد من كل ذلك دروسا تعيننا على التعايش السلمي فيما بيننا من أجل بناء مجتمع متراحم متآخ لا ظلم فيه ولا هيمنة لطرف على طرف آخر. 
لن تركز هذه الفقرات ولم يكن من هدفها معالجة الجوانب السياسية فالنقاشات بين ذوي الآراء المختلفة من مكونات شعبنا قد يساق فيها من الحجج هنا وهناك ما يصور كل طرف ضحية للآخر وذلك بحثه مسار مختلف.
هذا تمهيد ضروري لتناول موضوع الإرث الإنساني. فقد عرفت بلادنا منذ استقلالها بعض الإشكالات المتعلقة بالهوية والثقافة وقد أسهم المستعمر- المستخرب- الفرنسي في ذلك إما مباشرة أو من خلال تركته سواء تعلق الأمر بلغته أو غير ذلك من أساليب زرع الفتن والاضطرابات. حدثت احتكاكات في فترات مختلفة منذ قيام الدولة الوطنية  لكن المشكلة أخذت بعدا أخطر بعد المحاولة الانقلابية التي قام بها بعض الضباط  سنة ١٩٨٧م.
  تلك المحاولة التي ما كان لها إلا أن تؤول إلى أحد مآلين  إما الفشل كما حصل فعلا أو إشعال فتنة بين أبناء البلد الواحد لا سمح الله. لقد أخطأ هؤلاء الشباب، عفا الله عنا وعنهم، في سعيهم لقلب السلطة وهم يدركون أن الواقع المعاش لا يسعفهم لاستتباب الأمر وإنما مآل محاولتهم، كما ذكرنا، هو إشعال فتنة لا يعلم إلا الله مآلاتها ونتائجها، وحصل ما حصل وحكم على ثلاثة منهم بالأحكام المعروفة. إلى هنا يمكن أن ننظر للأمر بأنه عقوبة عسكرية طبقت في حق جنود حاولوا الاستيلاء على السلطة بالقوة وفشلوا وهذا حصل مع غيرهم من أبناء الوطن من المكون الآخر. لكن الكارثة الكبرى تمثلت  في التجاوزات الخطيرة التي تجلت في ظلم بين طال أناسا أبرياء من أبناء هذا البلد ((وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى))، فيما عرف بأحداث 89- 90- 91 فقتل من قتل في ظروف غابت فيها العدالة وسيطر فيها الانتقام دون مراعاة لقانون أو شرع فكان من نتائج ذلك أن عاشت أعداد كبيرة من أسر أبناء هذا البلد مآسي وآلاما منذ عقود من الزمن وظل الجرح مفتوحا حتى يوم الناس هذا.
نعم سعت الدولة في محطات ومراحل مختلفة لمعالجة آثار هذه المآساة ولكن، على ما يبدو، لم تحل المشكلة بشكل يرضي أصحاب الحق وهم أصحاب الكلمة الفصل فيما يعد إنصافا وفقا لما ينص عليه القانون. أجل حصل بعض التعويض المادي وسجلت  بعض المواقف الرمزية المعنوية المهمة من قبل الدولة ولكنها لم تصل إلى الحد الذي يرى الناس فيه العدالة تطبق بشفافية وإنصاف. إن تطبيق حلول جزئية لمعالجة هذا المسألة الشائكة لن يكون إلا مثل المهدئات التي يصرفها الطبيب المستعجل لمريض دون أن يشخص مرضه تشخيصا دقيقا فبعد فترة قصيرة سيرجع المريض شاكيا مما ألم به وما لم يشخص المرض تشخيصا صحيحا ويعالج علاجا شافيًا فإن الألم سيبقى بل سيتفاقم ويتحول إلى مرض خطير يفتك بالجسم ويتلفه وهذا ما لا نتمناه لبلدنا.
 نعم العلاج بالمهدئات سهل، والتدخل الجراحي، كما يقول الأطباء، صعب ومؤلم ولكنه يقضي على الداء ويؤول إلى شفاء تام بإذن الله، لذلك فهذه المشكلة تحتاج إلى جراحة دقيقة.  فالطبيب قد ينجح في عملية جراحية كما قد يخطئ ويفاقم الحالة، لذلك تحتاج هذه المعضلة  إلى طبيب ماهر حكيم دقيق إن لم يوفق في علاج المرض علاجا شافيًا فلا يتسبب في مضاعافات غير مرغوبة، وهكذا حال رجال السياسية والإدارة في تصديهم لهذه المعضلة الكبرى.
فمسؤولية الدولة إذن أن تعالج هذه المأساة بصدق وعدل وشفافية وفقا لما يمليه القانون ولكن بحكمة وبعد نظر والدولة هي المسؤولة أولاً واخيراً عن هذا الملف وهذه المعالجة، ولكن ذلك لا يعفي المجتمع برمته من المشاركة في علاج هذه الأزمة المفتوحة منذ أكثر من ثلاثة عقود. 
ولنا هنا أن نتساءل عن موقف المجتمع كله و خاصة اهل العلم والتأثير الاجتماعي  والثقافة والفكر والإعلام،
 أين صوتهم مما حدث فهل شعروا بآلام الضحايا؟ -أو كما يقول المناطقة الحكم على الشيء فرع من تصوره،
هل واسوهم؟ هل زاروهم؟ هل سألوا عن أحوالهم؟ وهل نصحوا الدولة سرا أو علانية بمعالجة هذه المشكلة العويصة التي يعاني منها كثير من الأرامل واليتامى وذوي الضحايا بل البلد كله؟ 
فإذا أردنا أن نخلي مسؤوليتنا ونؤسس لبناء مجتمع متراحم متآخ فلابد أن نشارك كلنا بما في وسعنا لمحو آثار هذه المآساة وجبر الأضرار ولو بشطر كلمة طيبة. قال تعالى:﴿ لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾
 توجد بعض الظواهر الاجتماعية التي قد نراها طبيعية ولكنها  ترسخ بيئة التباعد والتنافر أو على الاقل لا تساعد على التواصل والتعارف الإيجابي بين أبناء البلد الواحد، فمثلا نلاحظ ان المناسبات الاجتماعية سواء كانت أفراحا او أتراحا أو أي كانت طبيعتها لا يشترك فيها أبناء المكونات الأخرى فلا تجد في مناسبة معينة إلا أهل العرق الواحد أو اللون الواحد أو الجهة الواحده وهذا ربما يكون أحد أسباب عدم تعزيز التآلف بين أفراد المجتمع. 
يقول امين معلوف في كتابه "الهويات القاتلة": (كلّما شعر المهاجر بأن ثقافته الأصلية محترمة، انفتح أكثر على ثقافة البلد المضيف).
هذا في حق المهاجر إلى مجتمع غريب عليه فكيف بأبناء البلد الواحد  فالأصل أن التعايش بينهم أسهل من تعايش المهاجرين مع المجتمعات الغريبة، بل إنما بين أبناء المجتمع الواحد ينبغي أن يتجاوز مرحلة التعايش إلى مرحلة الانسجام والوئام.
ويجدر هنا التنويه بمبادرة جمعية ايادي الأخوة برئاسة الشيخ عبد الله صار التي اخذت على عاتقها التقريب بين مختلف مكونات المجتمع الموريتاني خاصة من خلال الحضور المتبادل للمناسبات الاجتماعية.. فهذا منهج قويم يستحق أن يقتدى به، ومما يسهل اتباع هذا المنهج تعميم تعلم لغاتنا الوطنية فيتعلم العربي السوننكية والبولارية والولفية ويتعلم أبناء هذه المكونات اللغة العربية.
لذلك لا بد من مشاركة الجميع  في حل هذه المعضلة الكأداء بحكمة وهدوء وبكل وسيلة مشروعة لمواساة وإنصاف المظلومين المكلومين. 
وعموما فالذي ينبغي أن نركز عليه في سياق التعايش السلمي، أو لنقل الانسجام، بين أبناء هذا البلد هو ان ننتقل من مرحلة المفاصلة والمغالبة واثبات الذات أو ننتقل من مرحلة الصدام إلى مرحلة التدافع بالمعنى الإيجابي الذي هو سنة من السنن الإلهية يمكن الأفراد والجماعات من دفع الظلم فيما بينهم ما لم يصل مرحلة الصدام.
 وقد عرَّف محمد عمارة مفهوم التدافع بأنه: «حراك واستباق يعدل الخلل الفاحش بين الفرقاء المختلفين، ليعيد العلاقة بينهم إلى مستوى التوازن الوسطي العادل».
ويقول ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير): «إِنَّ دفاع النَّاس بعضهم بعضًا يصدُّ المفسد عن مُحاولة الفساد، ونفس شعور المفسد بتأهب غَيره لدفاعه يصده عن اقتحام مفاسد جمَّةٍ».
لكن مجتمعنا يحتاج إلى مرحلة أخرى هي مرحلة ما يمكن تسميته الإيثار الاجتماعي والأخلاقي بحيث تكون اولوية كل مكون هي مصلحة المكون الآخر قبل أن يسعى للحصول على مصالحه، فهذا النوع من الإيثار هو الذي يبنى به السلم الاجتماعي وليس التعصب للعرق ولا للمكون ولا للجهة ولا تقمص دور الضحية هنا او هناك. 
والحق تعالى يقول: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾
قد يقول قائل إن هذا يدخل في باب التنظير المثالي، نعم قد يكون كذلك، ولكنه من التنظير القابل للتطبيق لمن يريد بناء مجتمع منسجم متفاهم وبناء دولة حديثة تزدهر فيها التنمية بأبعادها المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية وتشق طريقها لبناء حضاري أساسه الإنسان وكرامة الإنسان، ومنطلق ذلك كله دولة المواطنة والمؤسسات وتطبيق القانون بعدالة.
علينا ان ننظر إلى تجارب الشعوب الأخرى فنستفيد من معاناتها وآلامها وما عاشته من مرارات جراء الحروب الأهلية والاقتتال حتى لا نقع في الكوارث نفسها. كما ينبغي أن نستفيد أيضا من تجارب الشعوب التي أحسنت إدارة تنوعها فنمت وبنت حضارات وتعايشت بوئام ورخاء وتمكنت من التغلب بحكمة على الإشكالات التي قد يثيرها تعدد الألسنة والثقافات والأعراق.
إن توجه رئيس الجمهورية وفقه الله لحل هذه المعضلة وإعداد خطة مالية- حسبما ورد في بعض الأخبار لمعالجتها- يعد خطوة إيجابية ضرورية لعلها تمثل مقدمة لما بعدها من حلول أوسع وأعم.
ولتعميم العدالة فعلى الدولة النظر في ملفات المظالم الأخرى مثل حالة الضباط الذين فصلوا من الجيش قبل سنوات فقطعت ارزاقهم وارزاق عوائلهم وعددهم يقدر بسبعمائة ضابط، فصلوا ليس لأنهم حاولوا تدبير انقلاب بل بسبب انتمائهم الفكري كما نبه إلى ذلك المفكر والإعلامي المعروف الأستاذ عبد الله محمدو في مقابلة إعلامية بثت خلال الأيام الماضية.
إن التعايش السلمي يحتاج إلى حوار والحوار المثمر يحتاج إلى توافق والتوافق يحتاج إلى تنازلات متبادلة واحتواء وقمة ذلك الإيثار،  
وهذه محطات لا يحسن السباحة فيها الا الحكماء والعقلاء..
وحل الإرث الإنساني بصورة عادلة ومنصفة سيمهد الأرضية لهذا التوجه، لنترك للأجيال القادمة وطنا آمنا يسود فيه التعاون والتسامح والتآخي، وهذه هي قيم ديننا الحنيف،  لا بؤرا ملغمة متفجرة.
ولعل من الأخطاء البينة في التعاطي بين المكونات توظيف أخطاء الدولة أو أخطاء أفراد يمثلوناها لتحميل مكون بأكمله مسؤولية تلك الأخطاء.. 
كما يتعين علينا جميعا الانتباه إلى الأيادي الخفية الخارجية التي قد تستغل هذه المأساة والقضية العادلة لزرع الفتنة بين أبناء بلدنا.
والختام بهذه العبارة ذات الدلالات العميقة لمالك بن نبي:
إن الحضارة الإسلامية لن تخرج من ازمتها التاريخية الا إذا عرفت كيف دخلت اليها.
 وليقس ما لم يقل..
حفظ الله بلدنا وجنبه الشرور والفتن.