
مقدمة
الحمد لله الذي جعل الثواب على الأعمال كاملا موفرا لا فضل فيه لذكر على أثنى، وبيّن أنه لا يضيع عمل عامل من عباده المؤمنين رجالا ونساء، فقال في محكم التنزيل:﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾(آل عمران:195)، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين الهادي إلى صراط الله المستقيم سيد ولد آدم محمد الرسول الأمين القائل:{إنما النِّسَاءُ شقائقُ الرِّجَالِ}، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الكرام الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحشر واليقين.
وبعد؛
فقد انتدبني منتدى المرأة المسلمة للمشاركة في إعداد بحث علمي بشأن: "ضرب النساء: المنطوق والمفهوم"، في سياق احتفاء العالم بيوم القضاء على العنف الموجه ضد المرأة، يذب عن الشرع الحنيف، ويرد الشبهات التي تثار ضد الإسلام، ويبين التمايز الحاصل في الفهوم، لا في الأصول، ومرجعه إلى اختلاف الأعراف والعادات، وابتعاد الناس عن اقتفاء أثر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله رحمة للعالمين، فلم يضرب بيده شيئا قط، إلا في سبيل الله تعالى، وكان يحسن إلى أهل بيته رضوان الله عليهم، كان يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح لما ذكرت عنده أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: {إِنّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا} ، وكان يتلطف مع بناته رضي الله عنهن، فيخاطب فاطمة بأم أبيها بنت سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يرضى أذاها، فقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم:{وإِنَّ فَاطِمَةَ بضْعَةٌ مِنِّي وإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَسُوءَهَا} ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قل أن يواجه أحدا بما يعاب به، كما ذكر صاحب الفتح.
مدخل
تختلط عند البعض رؤية صحيح النظر الذي أراده الإسلام رافعا لشأن المرأة، ومحافظا على مكانة سامقة، تجعلها محور الاهتمام، فهي أم يجب البرّ بها ولا وصول إلى الجنان إلا من طريق رضاها، وهي بنت بضعة من البدن بأذاها يتأذى الوالد فهي قرة عينه وقطعة من لحمه ودمه، وهي صاحبة بالجنب يأوي إليها بحثا عن السكن والمودة والرحمة ولا يحس بالراحة إلا معها، وهي أخت يحتاج إلى شفقتها وحنانها ولهفتها، وهي ذات رحم يجب وصلها ولا مروءة مع تركها لغوائل الزمن، وهي إنسان رقيق يتقاسم معها حمل أعباء المجتمع؛ تضيف لمسة حانية إلى قسوة الحياة ومرارتها، إلى نظرة أخرها مغايرة تحمّل المرأة كل الخطايا، وتجعل منها شيطانا يمشي على الأرض، فهي عار وشنار وشر يجب القضاء عليه، إنه التصور المعوج لحقيقة المرأة، وصل إلى العقول من جهة استصحاب ما كان سائدا قبل بزوغ فجر الإسلام.
إن من فضل الله علينا وعلى الناس، أن أنعم على البشرية برسالة الإسلام القائمة على إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب الخلق أجمعين، وأشرقت أنوار الهدى والعدل والمساواة بين بني آدم، وأصبحت المرأة شقيقة الرجل لها ما له وعليها ما عليه، إلا ما اختص به كل صنف بحسب تمايز الواجبات والمسؤوليات وكيفية الحصول على الحقوق المفروضة والمحفوظة.
إذ الأصل أن الشارع الحكيم منع الإضرار وامتهان الكرامة لكل من الرجال والنساء، فقال في محكم التنزيل: ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء:70)، وهذا تشريف لبني آدم وتكريم في الخلق وتفضيل على بقية أصناف المخلوقات ، وحجز كل مكلف عن ظلم الآخر ونهى عن الاعتداء حتى مع المخالف في الملة، فقال تبارك وتعالى: ﴿ولاَ تَعْتَدُواْ﴾ (البقرة:190)، قال صاحب الجامع لأحكام القرآن : " ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم"، وأمر العدل والإحسان بقول جلّ جلاله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإِحْسَانِ وإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى﴾ (النحل:90)، قال صاحب التفسير الكبير : " جمع الله تعالى في هذه الآية ما يتصل بالتكليف فرضا ونفلا، وما يتصل بالأخلاق والآداب عموما".
ولئن كان مدار الأحكام على الرفق بذي القربى، فما بالكم بالزوجة التي هي سكن للزوج؟، إذ أمر بالعشرة بالمعروف، بقوله سبحانه وبحمده ﴿وعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ (النساء:19)، قال صاحب فتح القدير : " وعاشروهن بما هو معروف في هذه الشريعة وبين أهلها من حسن المعاشرة".
وأما ما ورد في النص من الضرب فليس على إطلاقه، إذ اقترن عند أهل العلم بالنشوز، وهو أمر مختلف في طبيعته، هل هو العصيان؟، أم الامتناع عن أداء الحقوق الواجبة؟، فليس للزوجة منع الزوج من التمكين ، وقال صاحب بداية المجتهد ونهاية المقتصد :" وسبب الخلاف معارضة العموم للمفهوم، وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام:{ولَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوف}، يقتضي أنّ الناشز وغير الناشز سواء، والمفهوم من أن النفقة هي في مقابلة الاستمتاع يوجب أن لا نفقة للناشز".
فأما غير ذلك من تَبايُن المشارب، فليس من النشوز، إن كانت صاحبته لا تمنعه من حقه الواجب، إذ مراجعة الإنسان في الأمر لا ينبغي أن تدفعه إلى الغضب أو تجاوز الحد في ظلم غيره، كما وقع لخولة بنت ثعلبة التي رفعت شكاتها إلى الله فنزل القرآن الكريم بإنصافها ، والقصة بتفاصيلها في الدر المنثور..
وهل الضرب مقيد بحد معروف؟ ، أم أنه من الأحكام السلطانية، وهو ما حمل بعض أهل العلم على لزوم تقييده، وإلا ترك، أو كان على ولي الأمر حجز الرجال عن التعدي، مخافة الجور المنهي عنه شرعا.
يقول الحق تبارك وتعالى:﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ (النساء: 34)، قال صاحب التحرير والتنوير : " وأما الضرب فهو خطير وتحديده عسير، ولكنه أذن فيه في حالة ظهور الفساد، لأن المرأة اعتدت حينئذ، ولكن يجب تعيين حد في ذلك، يبين في الفقه، لأنه لو أطلق للأزواج أن يتولوه، وهم حينئذ يشفون غضبهم، لكان ذلك مظنة تجاوز الحد، إذ قل من يعاقب على قدر الذنب، على أن أصل قواعد الشريعة لا تسمح بأن يقضي أحد لنفسه لولا الضرورة، بيد أن الجمهور قيدوا ذلك بالسلامة من الإضرار، وبصدوره ممّن لا يعتد الضرب بينهم إهانة وإضرارا".
وقد دلت السنّة النبوية على أن الضرب ليس من الفضائل، لما روي في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إن أن يجاهد في سبيل الله وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل)، قال في الشرح : " قوله: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إن أن يجاهد في سبيل الله) فيه أن ضرب الزوجة والخادم والدابة وإن كان مباحا للأدب فتركه أفضل".
الضرب في اللغة:
الضرب في اللغة يأتي على معان، منها: ضرب الشيء، والضرب في الأرض ابتغاء الرزق، والوصف والتبيين، والاضطراب والحركة، والصيغة والصنف من الأشياء، والضرب على اليد بمعنى الحجْر، وأضرب عنه بمعنى أعرض، وغير ذلك، قال صاحب الصحاح : " ضرب: ضَرَبه يضرِبُه ضَرْبًا، وضرب في الأرض ضَرْبًا ومضرَباً بالفتح، أي: سار في ابتغاء الرزق، يقال: إن في ألفِ درهم لمضرَبا، أي: ضربًا، وقال الله تعالى: ﴿وضَرَبَ لَنَا مَثَلاً﴾ (إبراهيم:24)، أي: وصفَ وبيَّن، وقولهم: فضرَب الدرهم ضَرَبَانَه، وضربَ على يد فلانٍ، إِذَا حَجَرَ عليه، والطير الضَّوارب التي تطلب الرزق، وضرَب البعيرُ في جَهازِه، أي: نَفَرَ، وضَرَبَتْ فيه فلانة بِعِرْقٍ ذي أشَبٍ، أي: التباسٍ، قال أبو زيد: أضرَبَ الرجل في بيته، أي: أقام فيه، وأَضْرَبَ عنه، أي: أعرض، وأضْرَبَ الرجلُ الفحلَ الناقةَ فضربها، والتضريبُ بين القوم: الإغراءُ، والاضطِرَابُ: الحركة، وهذا حديثٌ مضطرب السَّند، وضارَبه في المال: من المضاربةِ، وهي القِرَاضُ، والضَّرْبُ: الخفيف من المطر، والضَّرْبُ: الصيغة والصِّنف من الأشياء، ويقال: الضربُ: الإسراع في المشي، ومضرِب السيفِ: نحوٌ من شِبْرِ طَرَفِهِ".
الضرب في الاصطلاح:
الضرب في اصطلاح الفقهاء هو ما كان للتأديب، فلا يحمل على المبرح أو في موضع يوجع، قال صاحب الجامع : " والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح، وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها؛ فإن المقصود منه الصلاح لا غير"، وقال صاحب المرقاة : " ولا تضرب (الوجه): فإنه أعظم الأعضاء وأظهرها ومشتمل على أجزاء شريفة وأعضاء لطيفة، ويجوز ضرب غير الوجه إذا ظهر منها فاحشة أو تركت فريضة"، وهذا القول تقريب للمعنى الذي ذكر، من أن الضرب يقترن عند الفقهاء بالنشوز، وهو ارتكاب المحرم من الفاحشة، أو التسبب في ارتكابه بمنعه حقه دون عذر شرعي، وأما مراجعته في أمر ، أو مخالفته في الشؤون الحياتية فلا يعد نشوزا.
من معاني الضرب في القرآن الكريم
ورد لفظ ضرب في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، وجاء على معان متعددة بحسب سياق استعمال اللفظ، فتارة يشير إلى التحريك والضرب بالشيء، وتارة يقصد الضرب في الأرض بمعنى السير فيها طلبا للرزق، وتارة يوضح العبرة بضرب المثل، وتارة للترك والإمساك عن الشيء، وتارة للوصف؛ الضرب بالشيء والتحريك: يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِه فَقُلْنَا اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الحَجَرَ﴾ (البقرة:60)، الضرب في الأرض: ﴿وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِ فَضْلِ اللَّه﴾ (المزمل:20)، الوصف والتبيين: يقول الله تعالى: ﴿وضَرَبَ لَنَا مَثَلاً﴾ (إبراهيم:24)، الإعراض والإمساك عن الشيء وتركه: يقول الباري تبارك وتعالى: ﴿أَفَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا﴾ (الزخرف:5).
المعنى المختار:
الضرب بمعنى الإعراض والإمساك عن الشيء وتركه، وهذا يناسب سياق الكلام والتدرج في التأديب: الوعظ، ثم الهجر في المضجع، ثم الإعراض والترك.
النشوز في اللغة:
النشوز في اللغة من النشز وهو الارتفاع، قال صاحب الصحاح :" نشز: النَّشْزُ: المكان المرتفع، وجمع النشز: نشوز، ونشز الرجلُ ينْشُزُ وينْشِزُ نَشْزًا: ارتفع في المكان، ومنه قوله تعالى: ﴿وإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فانْشُزُواْ﴾ (المجلدلة:11)، وإِنْشَازُ عظامِ الميِّت: رفعها إلى مواضعها وتركيبُ بعضِها على بعض، ومنه قرأ زيد بن ثابت رضي الله عنه: ﴿كَيْفَ نُنْشِزُهَا﴾ (البقرة:259)، ونَشَزَتِ المَرْأَة وتنْشِزُ نُشُوزًا: إذا استعصت على بعلها وأبغضته".
النشوز في الاصطلاح:
النشوز عند بعض الفقهاء يعني امتناع المرأة عن أداء حقوق الزوجية لذلك صنفه البعض ضمن دائرة الخلع إن كان بعوض، بمعنى أن تطالبه بالمخالعة بعد الإعراض عن البقاء في علاقة الزوجية، بمفهوم المخالفة إذا كان بغير عوض، فهو امتناع عن التمكين، وهذا لا يجوز إن كان لا يمنعها حقوقها من الإعفاف والنفقة والسكنى، قال صاحب المدونة : " قلتُ: أرأيتَ النُّشوز إن كان من قِبَلِ المرأة أيَحِلُّ للزوجِ أن يأخذَ منها ما أعطتهُ على الخلع؟ قال: نعم، إذَا رضيتْ بذلك ولم يكن منه في ذلك ضررٌ لها، قُلتُ: ويكونُ الخُلْعُ ههنا تطليقةً بائنةً في قولِ مالكٍ؟ قال: نعم"، وعرفه بعضهم بمجرد عصيان أوامر الزوج، قال صاحب الروض المربع :" النشوز وهو معصيتها إياه فيما يجب عليها"، وجمهور الفقهاء أن النشوز هو: "عصيان المرأة زوجها والترفع عليه وإظهار كراهيته، أي إظهار كراهية لم تكن معتادة منها، أي بعد أن عاشرته".
نشوز الزوجة:
نشوز الزوجة عند البعض هو عصيان المرأة أمر زوجها، قال صاحب الصحاح : " نشزت المرأة إذا استعصت على بعلها وأبغضته"، ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ (النساء: 34)، قال صاحب التحرير والتنوير : " والحاصل أنه لا يجوز الهجر والضرب بمجرد توقع النشوز بل حصوله اتفاقا، وإذا كان المخاطب الأزواج كان إذنا لهم بمعاملة أزواجهن النواشز بواحدة من هذه الخصال الثلاث، وكان الأزواج مؤتمنين على توخي مواقع هذه الخصال بحسب قوة النشوز وقدره في الفساد، فأما الوعظ فلا حد له، وأما الهجر فشرطه أن لا يخرج عن حد الإضرار بما تجده المرأة من الكمد، وقد قدر بعضهم أقصاه بشهر".
نشوز الزوج:
نشوز الزوج هو جفاء الزوجة وترك معاشرتها، قال أهل العلم في تفسير قوله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ (النساء:128)، قال صاحب تفسير البغوي : " (النشوز): قال الكلبي: ترك مضاجعتها، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: فإن صالحته عن بعض حقها من القسم والنفقة فذلك جائز ما رضيت، فإن أنكرته بعد الصلح فذلك لها ولها حقها".
أولا: القرآن الكريم:
الدليل الأول: في الآية التي يحتج بها الكثير على جواز الضرب، ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ (النساء: 34)، قال صاحب التحرير والتنوير : " يجوز لولاة الأمور إذا علموا أن الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعها، ولا الوقوف عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة، ويعلنوا لهم أن من ضرب امرأته عوقب، كي لا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج، لا عند الوازع".
وجه الدلالة: التدرج في مواجهة النشور، وعدم استعمال وسيلة لا يتوخى منها إصلاح ذات البين، ومنع مجاوزة الحد في معالجة المشكل، وزجر الرجل عن ظلم المرأة وتذكيره بقدرة الله عليه، بدليل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ (النساء: 34).
الدليل الثاني: ما جاء في وجوب عشرة النساء بالمعروف، في قول الباري تبارك وتعالى: ﴿وعَاشِرُوهُنَّ بِالمِعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُواْ شَيْئًا ويَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (النساء:19)، قال صاحب فتح القدير : " وهو خطاب للأزواج أو لما هو أعم، وذلك يختلف باختلاف الأزواج في الغنى والفقر والرفاعة والوضاعة، (فإن كرهتموهن) لسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة ولا نشوز فعسى أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة وتبدلها بالمحبة، فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة وحصول الأولاد".
وجه الدلالة: أن العشرة بالمعروف واجبة ولو مع عدم المحبة، وأن النشوز صنف من أصناف جنوح الزوجة إلى ارتكاب المحرم، وليس مجرد إبداء الرأي أو مخالفة الزوج في أمر من الأمور.
الدليل الثالث: وصف العلاقة بين الزوجين بما يدل على القرب والمودة لا التنافر والمعاندة، وجعل ذلك الإفضاء مانعا من أخذ ما أعطاها إياه، وسمى ما حصل بينهما من عقد بالميثاق الغليظ، يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (النساء:21)، قال شيخ المفسرين : " وعلى أي وجه تأخذون من نسائكم ما آتيتموهن، ﴿وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾، فتباشرتم وتلامستم، وهذا كلام وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام، فإنه في معنى التنكير والتغليظ، كما يقول الرجل لآخر" (كيف تفعل كذا وكذا، وأنا غير راض به؟) على معنى التهديد والوعيد".
وجه الدلالة: أن أصل العلاقة بين الأزواج تقوم على الملابسة والمحبة، لا التدابر والاعتداء بما يذهب المودة من ضرب ونحوه.
ثانيًا: السنة النبوية
الدليل الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بمعاملة النساء بالرفق، وليس من الوصاة بالمرأة الضرب، لما روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {واسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا}.
وجه الدلالة: الاستجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم والوصاة بالنساء، وذلك في جميع أبواب الخير، وليس من الخير الضرب والتقريع وهدر الكرامة أمام الأبناء.
الدليل الثاني: الأمر بالإحسان إلى المرأة وهي بنت في طور التربية، في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها: {مَن ابْتُلي مِنَ البَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ} ، قال في الشرح : " في الأحاديث فضل الإحسان إلى البنات، والنفقة عليهن، والصبر عليهن، وعلى سائر أمورهن".
وجه الدلالة: الأمر بالصبر على المرأة وهي في مرحلة عمرية لا تفقه كثيرا من أمور الحياة، فكيف؟ إذا بلغت مبلغ النساء وصارت في وضع جديد لا تُعينها فيه رحمة الأبوة، بل الأمر بالصبر على زلاتها هو ما أمر به الشرع، في أحاديث أخرى، منها: ما ورد في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {واسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّ المَرْأَة خُلِقَتْ منْ ضِلَع وإِنَّ أعْوَجَ مَا فِي الضّلع أَعْلاَهُ فإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وأنْ تَرَكْتهُ لَمْ يَزَلْ أعْوَج} ، قال صاحب الفتح : " والوصية في النساء آكد لضعفهن واحتياجهن إلى من يقوم بأمرهن، وقيل معناه اقبلوا وصيتي فيهن واعملوا بها وارفقوا بهن واحسنوا عشرتهن، (خلقت من ضلع) قيل: فيه إشارة إلى خلق حواء خلقت من ضلع آدم الأيسر".
الدليل الثالث: أن الضرب ليس من الفضائل، لما روي في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إن أن يجاهد في سبيل الله وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل)، قال في الشرح : " قوله: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إن أن يجاهد في سبيل الله) فيه أن ضرب الزوجة والخادم والدابة وإن كان مباحا للأدب فتركه أفضل".
وجه الدلالة: أن ضرب النساء مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أتقى الناس وأعلم الخلق بما في الكتاب العزيز.
الدليل الرابع: ما ورد في الإحسان إلى الأهل في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي} ، قال صاحب التحفة : " قوله: {خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ} أي: لعياله وذوي رحمه وقيل: لأزواجه وأقاربه وذلك لدلالته على حسن الخلق".
وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم جعل الإحسان إلى الزوجة والعيال من أفضل الأعمال، وليس من الإحسان الضرب قطعا، فتأمل.
الدليل الخامس: أن ضرب النساء من العيوب التي يرد بها عند الزواج، والإفصاح عن فاعله ليس من الغيبة، بل يجب الإخبار بحقيقة فاعله لتحذر منه النساء، لما ورد في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: (فلمّا حللتُ ذكرتُ له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أمَّا أبُو جَهْمٍ فَلا يَضَعُ العَصَا عَنْ عَاتِقِهِ} ، قال في الشرح : " قوله صلى الله عليه وسلم: {أمَّا أبُو جَهْمٍ فَلا يَضَعُ العَصَا عَنْ عَاتِقِهِ}، فيه تأويلان مشهوران أحدهما أنه كثير الأسفار، والثاني أنه كثير الضرب للنساء وهذا أصح، بدليل الرواية التي ذكرها مسلم بعد هذه أنه ضراب للنساء، وفيه دليل على جواز ذكر الإنسان بما فيه عند المشاورة وطلب النصيحة ولا يكون هذا من الغيبة المحرمة بل النصيحة الواجبة، وقد قال العلماء أن الغيبة تباح في ستة مواضع أحدها الاستنصاح".
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن أبا جهم فيه ما يمنع من قبوله زوجا، فكان هذا دليلا على أن ضرب النساء ليس من مكارم أخلاق الرجال، وفيه أن صاحبة المسألة كانت تتوخى الأصلح لها.
خلاصة المسألة:
أن ضرب النساء ليس من العشرة بالمعروف امتثالا لأمر الحق تبارك وتعالى: ﴿وعَاشِرُوهُنَّ بِالمِعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُواْ شَيْئًا ويَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (النساء:19)، وليس من الفضائل، لما روي في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده)، وليس من الوصاة بالمرأة الضرب، ولما روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {واسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا}.
أما بالنسبة للكيفية التي يضبط بها ذلك من جهة التنظيم، فهو موكل إلى الإدارة السلطانية، وهو قول العلامة ابن عاشور أن على ولي الأمر تحديد ضابط لذلك وعدم ترك الأمر في أيدي الأزواج لأن الأصل في الشرع أن الإنسان لا يقتص لنفسه ، فعليها حجز الرجال عن ظلم النساء، وتفقيه النساء بشأن وجوب توفير أجواء السكن والمودة والرحمة في البيت، قال صاحب صناعة الفتوى المعاصرة : " وأما تنظيم صناعة الفتوى على مستوى الإدارة السلطانية (المستوى الرسمي) فإنّ ذلك يعدّ المهمة المثلى التي ينبغي للإدارة السلطانية القيام بها حفاظا على عقائد الناس، وصونًا للمجتمع من التناحر والتقاتل والتفرق والتشرذم نتيجة للفتوى المتناقضة والمتنافرة"، إذ الأصل المودة والرحمة بين الزوجين، هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، كل منهما سكن للآخر، فلا من تبصير الجميع بحقائق الدين، وما يجب على كل قبل زوجه.
والله أعلم بالصواب وعليه المعتمد وهو المستعان.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
.jpg)
.jpg)
.jpg)