
القمة السداسية التي جمعت الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني والرئيس الأمريكي دونالد ترامب وأربعة قادة أفارقة لم تكن عبثا ولا روتينا.. بل دعت إليها ظروف حرب باردة على المنطقة، وتم اختيار المشاركين فيها وفق عملية تنقيط شفافة وعادلة!
كان الرئيس الغزواني فارس هذه القمة وصاحب الكلمة الأهم فيها.. لاعتبارات لم تأت - أيضا - اعتباطا.. وللحديث عن القمة يجب أن نتطرق لدوافعها، ومجرياتها، ونتائجها المرجوة أو المتوقعة..
تعيش منطقتنا حالة استقطاب شديدة بين قوى دولية تعددت أدواتها واتفقت على الهدف.. وهو تثبيت موقع لها في منطقة ذات بعد استراتيجي، اقتصاديا وأمنيا وجغرافيا..
ظلت المنطقة إلى مدى قريب رهينة الهيمنة الفرنسية المطلقة، قبل أن تتفلت من بين أصابعها، بسبب شيخوخة فرنسا وفتوة وطموح أبناء المنطقة.. فآل الأمر من بين ما آل إليه إلى تكالب القوى الدولية الطامحة والطامعة في نصيب من إرث "رجل إفريقيا المريض"، وجلب كل منها إلى سوق المنطق ما يروج به.. طُعم الصين كان مجال التعمير والبنية التحتية، وعرض روسيا ذو بُعد عسكري وأمني، وقدمت تركيا مزيجا من الأمرين... أما الولايات المتحدة فبقيت إلى حد بعيد محترمة المجال الفرنسي باعتباره ضمن الحيز الغربي، غير أن انقشاع فرنسا وتهاطل الآسيويين رفع عنها الحرج وبدأت تدخل المنطقة من بوابة الأمن والحلم الأمريكي، ثم إظهار الندية واستخدام أسلوب الجزرة.. وأحيانا العصا! لا سيما بعد القطيعة مع روسيا وظهور عنصر الطاقة كسلاح أمن قومي استراتيجي..
في هذا الإقليم الملتهب كانت موريتانيا من دول قليلة حافظت علي سكونها وانكفأت على نفسها دون تدخل في أحزمة النيران الملتهبة في محيطها المضطرب.. وذلك عبر استراتيجية استخدمت الدولة الموريتانية فيها أنواع الأسلحة الخشنة والناعمة.. لينظر للبلد كأحد أهم دول المنظقة وأعمقها نظرة استراتيجية.. ما يعني أنه يعول عليه في الأمن والاستثمار.. فكان من أوائل من حُط في خانة المدعوين..
كان واضحا أن الرئيس الغزواني وفريقه حضّرا جيدا للقمة، وكانت كلمته الأكثر احترافية، أفكار متسلسلة ومرتبة، موجزة ودالة على معناها، تركز على الأهم، وتترك ما سواه لجلسات أكثر رحابة وأقل ضغطا.. الغزواني فعل - رغم بساطة الأمر - ما لم يفعله غيره.. قدّم بلده باختصار وعدد مزاياه بمعرفة.. ووضع أمام عراب الصفقات الدولية ما يسيل لعابه ويستنزل به التزامات واستثمارات نحن في أحوج ما نكون إليها..
لقد كان الغزواني متحدثا لبقا، يعرف ما يريد.. ويفهم نفسية الشخص الذي يخاطب.. وكان ترامب - بالمناسبة - في أفضل أوقاته احتراما ورزانة، وهو الذي شاهده العالم يهين الملوك ويوبخ الرؤساء والقادة، بينما كال للغزواني وبلده المديح.. ومقاطعته له سقطة ديبلوماسبة أمريكية لا شأن للغزواني وفريقه بها.. بل استغل الفرصة، واستخدمها أحسن استخدام..
نجاح القمة - وقد نجح الجانب المتعلق بالتقديم منها - سيعود بخير كثير على موريتانيا، سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا.. فهي إحدى البلدان المرشحة بقوة لتكون لاعبا إقليميا على مستوى السياسة الدولية.. وهي دولة محاددة من اليابسة للولايات المتحدة.. وهذا يعني إمكانية تصدير وتوريد مدعومين.. وشراكة اقتصادية ممكنة مع أهم اقتصاد عالمي..
خلاصة القول أن الرئيس محمد ولد الغزواني يستخدم بذكاء خارق عقله الأمني لخدمة الدبلوماسية الهادئة لا الهادرة.. ويراكم نجاحات لافتة، ويثبت للعالم أن موريتانيا واحة صداقة لكل من يريد التعاون معها من مبدأ التعاون.. وهي مع ذلك عصية على تنفيذ الأوامر العمياء وأداء الدور الوظيفي في المنطقة.. هذا ما تؤكده أروقة التعاون الدولي وصور الدبلوماسية الموريتانية في واشنطن وبكين وبروكسل وموسكو وأديس ابابا..
هذا النهج الذي يسير به الغزاوني الآن في العلاقات الدولية يشبه كثيرا ما كان يفعله الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، وهو أسلوب تنموي ودبلوماسي مؤثر في الداخل والخارج، يقوم على خدمة الدبلوماسية للمواطن الفرد.. وليس للدولة ككيان فحسب.. فحين وقعت بلادنا اتفاقا مع أوروبا يتم بوجبه تشغيل العمالة الموريتانية البسيطة في دول أوروبا، كانت الدبلوماسية هنا تخدم الفرد، أيضا.. وهذا ما أتوقع أن يبحثه الرئيس الغزواني أيضا في واشنطن..
أتمنى أن يجد الرئيس الغزواني من يرافقه في هذا المسار من ذوي الكفاءة والالتزام بثقافة الدولة.. وحينها لن ينهي مأموريته إلا وقد وضع أسسا لدولة مؤسسات لها مكان بين العالمين..