
لقي الخطاب الصريح لرئيس الجمهورية محمد الشيخ الغزواني أمام أطر مقاطعة اظهر عن خطر الارتها منن للمفاهيم المناقضة للانتماء الوطني كالقبلية والجهوية والفئوية ... كثيرا من الاهتمام من قبل الرأي العام الوطني بمختلف توجهاته لما لموضوعه من أهمية وآثار على مستقبل الوطن تقدما أو تأخرا ازدهارا واستقرارا، أو تخلفا واندثارا...
من البدهيات التي يجمع عليها العقلاء قديما وحديثا أنه متى تضعف الدولة المركزية أو تتخلى عن وظائفها تقوى الانتماءات الفرعية وتتغول يقول ابن خلدون"القبلية إذا قوي سلطانها ضعف سلطان الدولة، وإذا قويت الدولة خمد صوت العصبية"، وفي هذا المقال نحاول أن نعالج بعض الجوانب التي يثيرها موضوع صراع الأولوية بين الانتماءات الأولية والدولة الوطنية وذلك من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية: ماهي الانتماءات الأولية ؟ وما هي الدولة الوطنية؟ وما دوافع صراع الأولية بينهما؟
الانتماءات الأولية:
تعني الانتماءات الأولية تلك الروابط التي تصاحب الإنسان من لحظاته الأولى في الحياة؛ وتشكل الأسسس الأولية لروابطه ونوازعه كالقبيلة؛ والجهة، والفئة، واللون، وتسميها بعض الأدبيات "بالانتماءات القدرية" التي لا ينفك عنها أي إنسان؛ فلا بد لكل إنسان من مجتمع يضمه ، ومن جهة يرتبط بها، ومن فئة ينتمي إليها... وتقتضي الفطرة السليمة أن يتعلق الإنسان بهذه الانتماءات لارتباطها بطفولته وأيام براءته وقديما قال الشاعر:
وحبب أوطان الرجال إليهم **** مآرب قضاها الشباب هنالك
هذه الانتماءات الأولية أو القدرية بتعبير آخر لا يشكل الانتماء لها في الأصل تناقضا مع الانتماء لما هو أوسع منها وأجمع كالدين والدولة؛ غير أن دوافع الانتفاع ونوازع التميز والتسلط البشري كثيرا ما تحول هذا الانتماء الإيجابي الفطري في أصله إلى انتماء سلبي إلغائي استعلائي تدميري؛ وهو ما يجب الوقوف في وجهه وبيان خطره على الانتماءات الجامعة كالدين والوطن ...
الدولة الوطنية:
يمكن النظر إلى الدولة الوطنية أو القطرية من منظورين: إسلامي وغربي؛ فالدولة الوطنية من المنظور الإسلامي كيان دخيل على المنظومة الإسلامية جاء بديلا للكيان الجامع للأمة الإسلامية(الخلافة الإسلامية) بعد تفكيكها من قبل الاستعمار؛ وهي من هذا المنظور كيان سلبي تنبغي إزالته والعودة للمنظومة الإسلامية الأصيلة؛ والدولة الوطنية من منظور غربي هي الكيان السياسي الذي جاء بمنظومة قانونية سمتها الأساسية رعاية شؤون الناس؛ حيث يستاوون في الحقوق والواجبات؛ وتتكافأون في الفرص بغض النظر عن الدين والعرق واللون والجهة؛ ويقتضي الانتماء لها التشبث بالقيم الجامعة والابتعاد عن الارتهان للانتماءات الأولية لما بينها مع الدولة من تناقض إذا استخدمت استخداما سلبيا.
دوافع صراع الأولولية بين الانتماءات الأولية والدولة الوطنية
الأصل في المنظومات الراشدة أن تعمل وفق القاعدة التدبيرية المشهورة "الوقاية خير من العلاج"؛ لذا تعمل منظومة الدول المحكومة بقيم الجمهورية والمواطنة المتساوية إلى تنمية الانتماء الوطني الجامع دون أن تجعل بينه وبين الانتماءات الأولية تصادما أو تناقضا؛ وتستخدم لذلك جملة من الأساليب والبرامج لعل من أبرزها: وجود منظومة تعليمية قوية؛ تحفل مناهجها بما يقوي الانتماءات الجامعة، وتخلو من الحمولات السلبية التي تعلي من شأن الانتماءات الأولية أو تثير الاهتمام بها؛ ومما تستخدمه الدولة الراشدة لتهذيب تلك الانتماءات المساواة العادلة في الحقوق والواجبات؛ وضمان التكافؤ في الفرص؛ وعدم تهيئة الأرضية لنمو الشعور بالحاجة للانتماءات الفرعية؛ وبهذا تكون ملامح دوافع صراع الأولية بين الانتماءات الأولوية والدولة الوطنية بادية فبضدها تتميز الأشياء؛ ومن هذه الدوافع:
ضعف التنشئة الاجتماعية؛ إن ضعف التنشئة الاجتماعية دافع أساسي من دوافع نمو رواسب اجتماعية عادة ما تكون سردياتها المؤسسة مناقضة لمفهوم الانتماء الجامع؛ فتلك السرديات غالبا ما تكون مؤسسة على أسس التفوق والتميز المطلق عرقا وجهة وقبيلة؛
ترهل المنظومة التعلمية؛ يشكل ترهل المنظومة التعليمية غياب البيئة القادرة على تشكل وعي جماعي عند أبناء الوطن الواحد؛ فلا يوجد مجال أقدر على صياغة موحدة للأجيال وبناء أفكار جامعة؛ وانتماءات وطنية قوية من التعليم؛ فمن خلال المناهج التعليمية المعدة بإتقان منهجي وعلمي تسطيع الدول صياغة وعي وطني جماعي يعلي من شأن الوطن وقيمه الجامعة ويترك الانتماءات الأولية في حيزها الطبيعي؛ تسخدم في إطار التنافس الإيجابي؛ ولا تعجل وسيلة للتنابز والتمايز؛
تخلي الدولة الوطنية عن وظائفها؛ حين تتخلى الدولة الوطنية عن وظائفها الأساسية من رعاية مصالح الناس وضمان حقوقهم ؛ ويغيب التكافؤ في الفرص يبدأ الشعور بالحاجة للعودة للانتماءات الأولية ينمو لدى الأفراد والمجتمعات والجهات والفئات؛ وبقدر تخلي الدولة عن وظائفها وتهربها من مسؤولياتها تكبر تلك الانتماءات وتتغول في مقابل ضعف الدولة وتفكك الكيان الجامع؛
التهميش؛ يعتبر التهميش السياسي والاقتصادي والازدراء الاجتماعي دافعا أساسيا من دوافع صراع الأولوية بين الانتماءات الأولية والدولة الوطنية ومن أخطرها؛ ذلك أن التهميش في حقيقته يجمع بين تخلي الدولة عن مسؤوليتها تجاه جزء من مكوناتها واستخدام سلطتها ورمزيتها في تهميشه وإذلاله؛ مما يولد ردة فعل سلبية تجاه الدولة ككيان؛ فبدلا من أن تكون خادمة نافعة؛ تصبح "ضارة" مانعة؛ وهي أمور تضعف بلا شك الشعور بالانتماء لها؛
ألاعيب "النخب النفعية"؛ تعمد كثير من النخب النفعية المعتاشة على اختلالات الأوضاع نخب نفعية تفتقر إلى مقومات النجاح في ظل دولة المواطنة المتساوية؛ مما يدفعها للاستثمار في مناقضات الدولة الوطنية؛ فتغذي بأساليبها وألاعيبها تلك الانتماءات الأولية وترعاها وتحرص على استمرارها وتغولها على الدولة الوطنية؛ فبدون النفخ في هذه الانتماءات الأولية تفقد "النخب النفعية" موردها المتجدد الذي تتسلق من خلاله للحياة العامة؛ فتنشر فيها " سمومها الضارة" بكل مقومات الدولة الوطنية.
وحين ننظر إلى سياقنا الوطني من نشأة الدولة وحتى اليوم في ضوء الدوافع المذكورة آنفا ندرك أننا نعاني منها جميعا؛ ومن هنا يكون حديث من يتولى قيادة البلد عن ضرورة الابتعاد عن هذه الانتماءات وما تشكله من خطر على الدولة الوطنية مهما غاية الأهمية؛ لأنه يمتلك من الصلاحيات والمقدرات ما يمكنه تحويل هذا التوجيه إلى أفعال ملموسة تقوي الكيان الجامع وتضمن الانسجام؛ وتقود الدولة إلى القيام بوظائفها أحسن القيام؛ وهو ما يتطلب من "النخب الجادة" الدفع باتجاهه من خلال الانخراط في نقاش معمق يسد الفجوات الفكرية المتعلقة بهذه المفاهيم؛ ويوجد لمن يقود الدولة "ظهيرا وطنيا" يشجعه على المضي قدما في هذا المسار المفيد لكل مكونات الطيف السياسي والمجتمعي، ويقطع الطريق على "النخب النفعية" التي تسعى من خلال "ألاعيبها" لتغذية نوازع الانتماءات الأولية؛ وجعلها في صراع أولوية دائم مع الدولة الوطنية.
.jpg)
.jpg)