
تجمع التجارب الإنسانية على أن أكثر من 90 في المئة من خطط تطوير الذات التي وضِعت خلال العقود الماضية — خاصة تلك الخطط الطموحة المفصلة الثقيلة — قد آلت إلى الفشل. واسأل الذين خططوا للأعوام الماضية، كم أنجزوا مما حلموا به.
غير أن هذا الفشل لا يعود إلى خطأ في مبدأ التخطيط نفسه، وإنما إلى قصور في فهم طبيعة النفس الإنسانية وطبيعة الحياة المتغيرة.
لقد جرى التعامل مع التخطيط الشخصي كما لو كان مشروعًا هندسيًا يُنفذ فوق أرضٍ مستقرة لا تعرف التبدلات، والحال أن حياتنا مجرى لا ينفك عن التغير، يتعاقب عليه الصفاء والكدر، النشاط والخمول، الصحة والمرض، الانشراح والانقباض. الإنسان كائن تتقلب حاله، وتتغير طاقاته، وتتنازعه هموم شتى، ولا يمكن أن يُسجن في جداول زمنية صارمة لا تحتمل طوارئ الحياة وأثقالها.
لهذا، حين ربط الناس أهدافهم بمواعيد دقيقة، وألزموا أنفسهم بخطط قاسية، انهارت هذه الخطط مع أول عارض، وشعروا مع تكرر الفشل باليأس والإحباط، حتى غدت خطط التغيير نفسها مصدراً للتعب النفسي، بدل أن تكون مدخلاً للنهضة الذاتية.
إن الإشكالية العميقة ليست في إرادة التغيير، بل في آلية تصوره وتنفيذه. التخطيط الناجح لا يعني أن نملأ أيامنا بمهام مرقمة ومواقيت ملزمة، بل أن نبني في وجداننا عادة ثابتة، قابلة للحياة في مختلف الظروف، تستمر رغم تغير الأحوال، وتثمر رغم اضطراب المشاعر. وهذه العادة تبدأ بسلوك بسيط، لكنه بالغ الأثر: أن تجعل في يومك ساعة هادئة، ساعة تخلو فيها إلى نفسك بعيدًا عن ضجيج العالم، وتلتفت فيها إلى بناء روحك وعقلك بهدوء وصبر.
ليست هذه الساعة مرهونة بوقت محدد، وإن كان الفجر ميدانًا مباركًا لمن استطاع، لكنها قد تكون في أول النهار، أو في وسطه، أو في آخره، أو في أي وقت تجد فيه نفسك أقرب إلى الصفاء والسكينة. العبرة أن تختار لها وقتًا يناسب طبيعتك، فلا تكون ثقلاً مضافًا إلى أعباء يومك، بل متنفسًا يمنحك التجدد والانبعاث.
في هذه الساعة الهادئة، تعبد الله بما تيسر، تذكره بطمأنينة، تتلو شيئًا من القرآن بتدبر، تقرأ في كتب العلم والمعرفة ما ينعش فكرك، تتأمل أحوالك، تراجع خطاك، تبني مشروعك الشخصي بوعي هادئ بعيد عن التوتر والإكراه. هذه الساعة لا تقوم على الإنجاز الكمي، بل على البناء النوعي العميق، فهي بمثابة الشريان السري الذي يمدك بالقوة النفسية والفكرية للاستمرار والثبات.
إن هذه المنهجية تتسق مع السنن الإلهية التي تعلمنا أن الديمومة تغلب الوفرة، وأن القليل المستمر أبرك من الكثير المنقطع، كما قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: “أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ” (رواه البخاري ومسلم). ولهذا، لا ينبغي أن نحزن إذا مرت بنا أيام غاب عنها هذا الهدوء، فالعبرة بالمجموع، لا باللحظة الفردية. المهم أن نظل نعود، ونصر على تثبيت هذه الساعة في حياتنا، كما يصر الغيم على السقوط حتى تزهر الأرض.
حين تمضي سنة أو أكثر، ستنظر خلفك فتدرك أنك بنيت ذاتك دون صخب، وشيدت عالمك الداخلي دون أن تذبل فرحتك تحت وطأة كثرة الجداول وتوالي الإحباطات. إن الذين يغيرون حياتهم حقًا ليسوا أولئك الذين يضعون عشرات الأهداف في أول العام، بل أولئك الذين يحافظون على عادتهم الصغيرة يوماً بعد يوم، مهما تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال.
ابدأ اليوم بزرع ساعتك الهادئة، ولا تستعجل الثمار، فالبناء العميق لا يظهر سريعًا.
واذكر أنك حين تختار التغيير الصامت البطيء، تكون قد اخترت الطريق الذي تصنع فيه نفسك بيديك.