أطلق عدد ممن يسمون أنفسهم "مفكرين" أو "مثقفين" أو "تنويريين" مركزا يسمى "تكوين الفكر العربي"، وذلك يوم 4 مايو 2024م في المتحف المصري الجديد بالقاهرة، محفوفًا ببذخ ملحوظ في الإنفاق على هذا الحفل، وعلى منصاته التي أنشئت على وسائل التواصل الاجتماعي، حتى وصلت هذه النوافذ إلى عشرات الآلاف من المتابعين خلال 48 ساعة من إنشائه!
ويضم المركز 6 أعضاء يشكلون مجلس أمناء المؤسسة وهم: إبراهيم عيسى، وإسلام بحيري، والدكتور يوسف زيدان، والكاتبة التونسية ألفة يوسف، والباحث السوري فراس السواح، والباحثة اللبنانية نايلة أبو نادر.
ويتبنى المركز أهدافًا معلنة تتمثل في: تعزيز الفكر الحر، والنقاش المفتوح في المجتمع العربي، وتشجيع البحث العلمي والتفكير النقدي في القضايا الدينية والفكرية.
وفور إطلاق هذا المركز بنوافذه الإعلامية قامت حملة إعلامية كبيرة وردود أفعال على منصات التواصل الاجتماعي لرفض فكرة هذا المركز بسبب القائمين عليه وتاريخهم المعروف والمشبوه، وأصبح وسم: "أغلقوا مركز تكوين" متصدرا على منصات التواصل الاجتماعي، ونادت أصوات بوجوب تدخل الأزهر الشريف لإغلاق هذا المركز.
لماذا الآن؟
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا إطلاق هذا المركز الآن، وفي هذه الظروف؟
والجواب عندي يتمثل في ثلاثة أمور:
الأول: تعزيز الحملة العلمانية والصهيوأمريكية على الإسلام: عقيدة وشريعة، وتاريخا وحضارة، وأصولا وفروعا، وليس بهدف "تعزيز الفكر الحر، والنقاش المفتوح في المجتمع العربي، وتشجيع البحث العلمي والتفكير النقدي في القضايا الدينية والفكرية" كما جاء في أهداف المركز، وإنما في هدم كل ما سبق، وتشكيك المسلمين في دينهم بما لنا من معرفة بتاريخ المؤسسين ومسلكهم الفكري، في وقت غاب أو غُيِّب فيه علماء ودعاة وفقهاء في غيابات السجون والمعتقلات في مصر والسعودية والإمارات، وغيرها .. ومما يعزز هذا الهدف أن الإمارات هي التي تتبنى هذا المركز بالتمويل والإعداد والترتيب، وكذلك هو – كما علمت – امتداد وبديل لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود" التي نشأت في المغرب قبل سنوات للغرض ذاته، لكنها ما لبثت أن ذبلت وانكمشت.
الثاني: بما أن السياق حاكم لقراءة الأفكار، وفهم الاختيارات، ففي ظل ما نحياه الآن من معركة ضارية على أرض فلسطين "معركة طوفان الأقصى"، وما يبدو في الأفق من انتصارٍ للمقاومة، تأتي محاولة "مركز تكوين" لمصادرة الظفر والفوز، والعمل على إجهاضه مبكرا، والتشكيك في كل ما يمت للمقاومة بصلة سواء من حيث الفكر الذي تحمله، أو الإنجاز العالمي الذي حققته، وفي هذا الإطار نفهم ما يردده بعض "المشائخ" في مصر وخارجها ممن يصفون المقاومة بأنها خوارج أو امتجاج لها أو مالوا لآرائها، ومن ناحية أخرى فكلما فشلت محاولة "إلحادية" أو "تنويرية" في تحقيق أهدافها أو لفت الأنظار إليها قامت محاولة أخرى، وتأسست جهة بديلة حتى يستمر النسل "الشيطاني" ويمتد النبت "الإبليسي" في الأمة للهجوم على ثوابتها، وتشكيكها في عقيدتها وشريعتها وتاريخها.
الثالث: أنها وسيلة للإلهاء عن قضايا مصر الرئيسة التي تعاني تحت نظام ضيّعها، وباع أصولها، وأخرها حتى باتت في ذيل الأمم في الاقتصاد والتعليم والحالة السياسية والحزبية وغيرها، فبدلا من أن تركز وسائل الإعلام والمصريون على القضايا الحقيقية التي تستحق الاهتمام والأولوية، يمكن صرفهم بالجدل حول هذا المركز، وشغل الوقت بالردود على ما يثيره من قضايا ويتناوله من أفكار.
موقف المسلم من هذا المركز
وقد يتساءل البعض ماذا يفعل المسلم أمام هذه المؤسسات التي تطرح هذه الأفكار؟ والجواب يتجسد في أمور:
الأول: أن ينظر المسلم عمّن يأخذ دينه، فلا ينخدع بالشعارات والعناوين بل يبحث في سيرة أصحاب التأسيس وينظر في مؤهلاتهم ومسيرتهم، والذي يبدو من تكوين هذا "التكوين" أن واحدا من مؤسسيه لم "يتكوّن" تكوينا علميا يؤهله للحديث عن قضايا فكرية أو أفكار شرعية بما يعمل على: "تعزيز الفكر الحر، والنقاش المفتوح في المجتمع العربي، وتشجيع البحث العلمي والتفكير النقدي في القضايا الدينية والفكرية"، بل العكس هو الصحيح؛ حيث إن تاريخهم يشير إلى شذوذ في الفكر، وبعد عن صحيح الإسلام: عقيدةً وشريعة، وتشكيك في تاريخ المسلمين وحضارتهم، بل اعتداء على ثوابتهم وقطعيات شريعتهم، والمعلوم من دينهم بالضرورة!
الثاني: إذا شاهد المسلم شيئا من هذه المقولات الشاذة والمخالفة لصريح الإسلام، وابتُلي بسماعها، وأراد أن يعرف صحيح دينه فعليه الرجوع للراسخين في العلم الذين درسوا علوم الشريعة، وأنفقوا أعمارهم في تحصيل العلم وتعليمه والعمل به، وصاروا أعلاما في هذا الميدان؛ حيث شهد لهم الناس بالعلم، ولم يُعلم عنهم شذوذ في الفكر، ولا انحراف في السلوك، أو مخالفة لمحكمات الإسلام.
الثالث: الالتحاق بالمعاهد الشرعية والجهات الموثوقة التي تعلم العلم الشرعي الصحيح، والجهات العاملة على تحصين الشباب والفتيات؛ حيث يقوم عليها ثلة من أصحاب العلم والخبرة معا في مجال التكوين والتحصين، وقد أصبح هذا مشهورا ومعروفا في عالم مفتوح.
الرابع: على كل المصريين في كل مكان أن ينشغلوا بالقضايا الحقيقية المتعلقة بواقعهم ومستقبلهم، ولا يجعلوا هذه "المعطلات" و"المعوقات" المدروسة تقف حائلا دون حمل الهمّ العام والاهتمام بقضاياهم ونهضة أوطانهم، والوقوف أمام كل سلوك أو تصرف يؤخر الأوطان ويضعف الأمة!
مستقبل تكوين
إن الحملة ضد الإسلام ليست وليدة مركز "تكوين"، وإنما زامنتْ مجيء الإسلام منذ آدم عليه السلام، مرورا بمسيرة الأنبياء، وانتهاء برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، كما أورده القرآن الكريم في قصص هؤلاء الأنبياء جميعا، وستظل هذه الهجمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو مقتضى سنة "التدافع" بين الحق والباطل، تلك السنة التي تعد من السنن الربانية الكبرى التي أقام الله تعالى عليها الحياة والأحياء، وهي تقتضي أن ينتصبَ أهلُ الحق لأهل الباطل، وأن يكشفوا جهلهم، ويدمغوا حججهم التي يُخيَّل للناس من سحرهم أنها تسعى، ويلقوا عليها عصا العلم الحقيقي والفكر الراسخ؛ حتى تلقف ما يأفكون.
وما كان مصير هذه المحاولات الممتدة في التاريخ إلا أن ذهبت أدراج الرياح، وأراقت الأمة عليها ذَنوبًا من ماء! سواء أكان تشكيكا في العقيدة، أو مهاجمة للسنة، أو تفريغا للشريعة من مضمونها، أو تصويرا للتاريخ الإسلامي وحضارة المسلمين على أنه تاريخ دموي شيطاني تآمري، وحضارة متحيزة متعصبة متخلفة ذهبت كل هذه المحاولات أدراج الرياح، ولكن أمام الحجج الدامغة، والبراهين الساطعة، والأدلة القاطعة، فبقي الإسلام، وذهب الطغيان، واندحر الشيطان، وإن كان أحفاده لن ييأسوا أن يثيروا شبهات أسلافهم، وأفكار أسيادهم قديمًا وحديثًا.
ولهذا؛ فإنني لا أحمل همًّا لإطلاق مثل هذه المحاولات؛ لأنها ستذبل وتنتهي، وتفشل في تحقيق أهدافها؛ مصداقا لقول الله تعالى: ﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَیَذۡهَبُ جُفَاۤءࣰۖ وَأَمَّا مَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَیَمۡكُثُ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ﴾ [الرعد ١٧].
أخيرا: على أعضاء "مجلس الأمناء" لهذا المركز "المشبوه" أن يتعلموا دينهم إن كانوا ينتسبون للإسلام، وأن يدرسوا علومه، ويحترموا التخصص، ويتعلموا كيف يقيمون عبارة واحدة على قواعد اللغة العربية الصحيحة قبل الحديث عن عويص المسائل، ومشكلات الأفكار، كما أرجو أن يهتموا بقضايا الحريات الحقيقية، والمناداة باحترام حقوق الإنسان وحقوق النساء والأطفال الذين يبادون الآن أمام أعيننا، والمطالبة بإنقاذ مصر من واقعها المتردي، ومن حالها البائس، ويتحدثوا فيما يحسنون، ويتركوا ما لا يحسنون لمن يحسنون.