
أن يطلع رئيس الدولة على أحوال الشعب وظروفه ،ويدلف إلى مشاكل المواطنين عن قرب ،ويتعهد المصالح والخدمات بغية تنفيذ المشاريع ومتابعة القرارات أمر في غاية الأهمية ..ولا أحد يمكنه أن يؤاخي بين كلمتين أو يؤلف بين جملتين اعتراضا وتحفظا.
لكن حينما تسلك تلك المعاينة والزيارات مسالك أخرى وتنتهج مشارب أخرى يصبح التحفظ عليها ونقدها عين الصواب، أولنقل حواسه الخمسة.
ومن خلال المتابعة لسرب الزيارات التي بدأها الرئيس للولايات الداخلية يمكن تدوين بعض الملاحظات:
- لقد أعادت هذه الزيارات بتلك الطريقة الاحتفالية المنسقة والمنظمة سيرة زيارات الأنظمة الفارطة التي حينما ألجمها عرق الرفض والانقلابات لم تغن تلك الأمواج البشرية عنها شروى نقير .. ولم ينهض من كانوا بالأمس يتبارون في أساليب وفنون التزلف والتملق لنصرة "الزعيم" أو الاعتراف له بالجميل..ولم يهب من كانوا يعلنون مبايعته في المنشط والمكره دون قيد أو شرط ..بل شدوا الأحزمة ونهضوا سراعا في تظاهرات تلعن النظام "البائد" وتتهمه بالخيانة العظمى. بنفس الحناجر ونفس النغمات ونفس الاندفاع .مصداقا للحديث الشريف إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
- حسب المتابعين لهذه الزيارات عن قرب فثمة جهات إدارية وسياسية واجتماعية هي من يحدد الأماكن المزورة ونقاط الزيارة وتبدأ الاستعدادات لترتيب "اللعبة" فور إعلان تاريخ الزيارة ..فكل ما يتصور هؤلاء أنه يعكس إنجازات "الزعيم" يعتبر محطة ضرورية يتوقف عندها الموكب، وتلتقط الصور ويشرح المعنيون الأمور شرحا لا يزاحم فتح الباري أسلوبا ومنهجا ومصداقية.. وهو ما ينحرف بالزيارة عن مسارها ويفقدها طعم الجدية .
إن العمل على تزييف الواقع وتزويقه وتنميقه وتنظيف الشوارع والمباني وترتيب الملفات بطريقة مناسبة لحظات قبل الزيارة يدخل ضمن "التشويه" وشهادة الزور التي ألفها كثير من المسؤولين والساسة وألفتهم حد التماهي مع قول الشاعر
فكأنما نتجت قياما تحتهم .. وكأنما ولدوا على صهواتها
فالمعروف أن هؤلاء هم من يلتقيهم الرئيس ويرافقونه في كل محطاته، ويركضون أمامه وخلفه وعن يمينه وشماله كعداء أثيوبي محترف نهاية سباق دولي حاشد ،ويمنعونه من مقابلة السكان المحليين بطرق ملتوية وفنون محترفة ..ولا ينقض تلك القاعدة استثناءات هنا أوهناك لا تسعف مريضا ولا تطعم جائعا ولا تروي غلة صاد.
فما تقر به عين "الزعيم" لا يعكس حقيقة المناطق المزورة ومعاناة سكانها ..فتزويد تلك المناطق بالمياه الصالحة للشرب وبالكهرباء مدة الزيارة يعطي انطباعا مناقضا للحقيقة تناقض رابعة النهار مع سحر ليل بهيم. ويدخل في سياسية "التلبيس" التي أهلكت الحرث والنسل، وآذنت بخراب العمران وصوح بها نبت النماء والتقدم.
تنمو عادة في مثل هذا النوع من الزيارات الخطابات والتوجهات والتحركات ذات البعد القلبي والجهوي بشكل مقرف على مرأى من النظام، بل وبتأييد وتشجيع من "المخزن" حتى يكون حجم الحشود ضخما والحفلات والاستقبالات باهرة.. لذلك ليس من الغريب أن يتفرغ الوزراء وكبار المسؤولين لهذه المهمة "النبيلة" فتتوقف الأعمال داخل الوزارات والإدارات بشكل كلي ،ويتيه المراجعون وتتعطل مصالحهم تحت يافطة استقبال هؤلاء للرئيس ناهيك عن تبديد الأموال العمومية تحت هذا الشعار "الوطني"
والمصيبة الكبرى أن تعلن القبائل على الملإ عن أنشطتها ومساهمتها في "إنجاح الزيارة " وهو تعبير أضحى مرتبطا بالبذخ والاحتفالات وحشد الضعفاء والمساكين على قارعة الطريق ليلوحوا للزعيم أو يلوح "الزعيم "لهم وهو يمشي أو يستقل مركبة، هذا إن لم يبسم لهم الحظ بمصافحة عابرة تباري سرعة إحضار عرش بلقيس من قبل من عنده علم من الكتاب ..بينما يفترض أن يكون "نجاح الزيارة" فيما حققته من معاينة المشاريع وما يشفعها من حل لأزمات ومشاكل المواطنين. ولعل أغرب ما في تلك الاستقبالات وتزلف بعض المتطوعين لتقدم الصفوف هو حديثهم عن الإنجازات الضخمة والمشاريع العملاقة .ليفاجئك أحد البسطاء بالقول لدينا شح في المياه، وافتقار واضح لنقاط صحية توفر العلاجات الأولية والأدوية الضرورية ،وعوز في الدخل الاقتصادي، وترد في المؤسسات التعليمة، وضعف في الشبكة الكهربائية مع معاناة مريرة من عدم الطرق المعبدة ..وكل المشاريع المحلية غير مدعومة من قبل الدولة ..لتطرق البال أسئلة حائرة حائر سيعود الموكب أدراجه نحو العاصمة دون أن نجد لها إجابات مقنعة.
ما الذي تحقق للسكان في ظل انعدام كل هذه الخدمات الأساسية؟
وما الجديد الذي حملته هذه الزيارات غير تجديد طبقة معينة لولائها المطلق للنظام؟
أحمد أبو المعالي
كاتب وشاعر موريتاني مقيم بالإمارات