
لم يكن تقرير محكمة الحسابات الموريتانية وثيقة رقابية عادية، بل أول اختبار حقيقي لمصداقية الدولة في إدارة المال العام، ولجدية مؤسساتها في الانتقال من الأقوال إلى الأفعال.
غير أن ما تلا نشر التقرير كشف أن عدالة التقارير شيء، وعدالة التطبيق شيء آخر.
انتقائية في التناول
رغم ما تضمّنه التقرير من اختلالات موثقة في قطاعات متعددة، فإن طريقة تداوله كانت انتقائية وغير منصفة.
تم التركيز على بعض الوزراء وإغفال آخرين، كما تم الخلط بين الفترات الزمنية حتى تداخلت المسؤوليات، فضاعت العدالة بين من ارتكب الخطأ ومن ورثه.
هكذا تحوّل النقاش من رقابة مؤسسية إلى مطاردة إعلامية لا تُنصف ولا تُصلح.
من النقاش الموضوعي إلى الدفاع القبلي
بدلاً من أن يفتح التقرير نقاشاً وطنياً حول ترشيد التسيير والإصلاح الإداري، انزلق الحوار نحو دفاعات قبلية وجهوية.
صار الولاء للقبيلة و الجهة أهم من الولاء للدولة، وغابت روح المواطنة أمام الانتماءات الضيقة.
وبدل أن يكون التقرير وسيلة لبناء الثقة في المؤسسات، أصبح ساحة لتصفية الحسابات الشخصية.
التشهير بدل المطالبة بالعدالة
زاد المشهد سوءاً بسبب الدور السلبي لبعض النشطاء والمدونين الذين حوّلوا التقرير إلى أداة للتشهير لا للمساءلة.
انتشرت الأسماء والصور والاتهامات، فاختلطت الحقيقة بالشائعة، وتضررت سمعة الأبرياء، بينما أفلت بعض المذنبين من العقاب وسط الضوضاء الإعلامية.
وفي هذا السياق، عبّر معالي رئيس الوزراء السيد المختار ولد اجاي خلال عرضه للسياسة العامة للحكومة أمام البرلمان هذا العام عن موقف وطني واضح بقوله:
“أكثر ما يخدم المفسدين هو القول إن الجميع مفسد، والتشهير بالجميع مفسدين وغير مفسدين.”
عبارة تختصر جوهر الأزمة: فالتعميم في الاتهام يقتل العدالة، ويمنح الفاسدين غطاءً جماعياً يختبئون خلفه.
الاختبار الأول لسلطة محاربة الفساد
يشكل هذا التقرير أول اختبار فعلي لـ سلطة محاربة الفساد التي تم إنشاؤها مؤخراً كهيئة مستقلة لتتولى التحقيق والمتابعة القضائية في ملفات الفساد.
وإذ نثمّن إنشاؤها، فإننا ننتظر منها خطوات عملية تُثبت استقلالها وجديتها في التعاطي مع هذا التقرير، عبر تحقيق شامل وشفاف يميّز بين الأبرياء والمذنبين بعيداً عن الانتقائية والضغط الإعلامي.
ومن هنا، نطالب فخامة رئيس الجمهورية بإحالة التقرير رسمياً إلى هذه السلطة لتقوم بدورها كاملاً في إحقاق العدالة.
من الرقابة إلى الإصلاح
لقد آن الأوان للانتقال من مرحلة الرقابة الشكلية إلى مرحلة الإصلاح الجوهري، عبر:
1. آليات تطبيق عادلة وشفافة تضمن محاسبة الفاسد دون ظلم البريء.
2. ضوابط إعلامية وأخلاقية توقف التشهير وتحمي سمعة الناس.
3. ثقافة وطنية جديدة تدافع عن الحقيقة لا عن الأشخاص، وعن العدالة لا عن الولاءات.
4. تكريم المسؤولين الذين أحسنوا التسيير، وإبرازهم كنماذج وقدوة في النزاهة والعمل العام، لأن العدالة الحقيقية لا تكتمل بالعقوبة فقط، بل أيضًا بالمكافأة والاعتراف بالنجاح.
الخاتمة
العدالة ليست في كشف الأخطاء فقط، بل في إنصاف الأبرياء ومحاسبة المذنبين بميزان واحد.
وإلى أن تتحول تقارير محكمة الحسابات إلى تحقيقات شفافة ومحاكمات عادلة، ستبقى مجرد شهادات نزيهة في نظام لم يبلغ بعد نزاهة التطبيق.
لكن الأمل اليوم معقود على سلطة محاربة الفساد لتكسر هذه الحلقة، وتؤكد أن موريتانيا دخلت فعلاً عهد المساءلة والإنصاف والشفافية.