
تعددت الآراء حول مفهوم الحداثة وأهميتها ومجالاتها بين من يتبناها على وجه الإطلاق ومن يعارضها بشكل مطلق ومن يعارضها في بعض جوانبها ويقبل الجمع بينها مع القيم الإسلامية وفق ضوابط معينة.
والحداثة مصطلح متعدّد ومتباين في الرؤى والتحليلات، فلكلٍ من المفكِّر والمؤرِّخ والفيلسوف وعالم الاجتماع والأديب وعلماء النفس وعلماء الطبيعة موقف خاص ومفهوم للحداثة مغاير للآخر. ومنهم من يحدِّد تعريفها حسب ظهورها في عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر الميلادي والقرون التي تلتها والبعض الآخر يحدِّد حقبة زمنية تتمثَّل بسنة 1910م باعتبارها تاريخاً لبداية الهويِّة الثقافية الواضحة المعالم والشخصيِّة الإنسانية في ظلّ الحداثة (1).
و يمكن تقسيم المفكرين العرب إلى فريقين حسب مفهومهم للحداثة وموقفهم منها:
- فريق يتبنى الحداثة بشكل كامل مع فروق في الموقف من بعض تفاصيلها ويمثل هذه الفئة من يسمون ب"الحداثيين" ومنهم محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد، وعبد الله العروي، وأدونيس (علي أحمد سعيد إسبر).
- فريق منتقدي الحداثة والحداثيين، على الأقل بمفهومها الغربي، ومنهم طه عبد الرحمن وعبد الوهاب المسيري وإدوارد سعيد وأبو يعرب المرزوقي ووائل حلاق مع بعض الفروق في مناهج النقد ومواضعه والموقف من الحداثة عموما.
مفاهيم الحداثة عند الحداثيين العرب
مفهوم الحداثة عند محمد آركون
يرى محمد آركون أن الحداثة ليست مجرد مفهوم غربي، بل هي مشروع إنساني شامل يتطلب إعادة قراءة التراث الإسلامي وتحديثه من خلال استخدام العقل والمنهج التاريخي والنقد البناء. ويركز آركون على أهمية فهم التاريخية، أي خضوع كل الأنظمة العقائدية للتاريخ، وأن الحداثة لا تتحقق إلا بفهم هذه التاريخية. كما يرى أن الحداثة تتطلب احترام حقوق الإنسان والديمقراطية لتحقيق التحرر الفكري والمجتمعي.
ويرى كذلك أن الحداثة تتطلب إعادة قراءة التراث الإسلامي من خلال مناهج حديثة، مثل المنهج التاريخي، ونقد المفاهيم والأفكار السائدة فيه، مع عدم إلغاء جوهرها الديني ( 2) .
مفهوم الحداثة عند الجابري
أما محمد عابد الجابري فيرى أن الحداثة ليست مجرد مفهوم نظري أو فكري، بل هي مشروع حضاري يتجلى في التغيير والتجديد في مختلف جوانب الحياة، مع التركيز على أهمية استلهام التراث العربي الإسلامي كجزء من هذا المشروع.
ونلاحظ هنا ما يشبه الاتفاق بين آركون والجابري حول عدم استبعاد الدين عن الحداثة و إن اختلفت عباراتهم، فآركون يتحدث عن عدم إلغاء جوهرها الديني بينما يتحدث الجابري عن أهمية استلهام التراث العربي الإسلامي كجزء من هذا المشروع. لكن كما سيأتي معنا فإن آركون سيناقض نفسه بطرح مآله القطيعة مع الدين بالمفهوم الغيبي.
مفاهيم الحداثة عند منتقديها
مفهوم الحداثة عند محمد عمارة
لعل محمد عمارة من أكثر منتقدي الحداثة وضوحا إذ يعرفها بقوله: “الحداثة بالمعنى الغربيّ هي قطيعة معرفيّة مع الموروث. وبالتالي لا علاقة لنا بها بل هي نقيض للتجديد”(3).
مفهوم الحداثة عند المسيري
يرى المسيري أن مصطلح الحداثة هو من أهم الظواهر التى أنتجتها الحضارة الغربية والتى تعكس تحيزاتها، وتبدأ مرحلة الحداثة عنده من نهاية الحرب العالمية الأولى حتى منتصف الستينيات من القرن العشرين. ويعرفها المسيري بأنها تبني العِلم والتكنولوجيا والعقل كآليات وحيدة للتعامل مع الواقع. وهو يشير إلى أن أهم خصائص الحداثة الغربية تتلخص في أن المادة هى أساس الفكر ومصدر المعنى والقيمة، وفى أن التكنولوجيا العلمية، هي التى تمثل معيار القيمة وتعمل على السيطرة على الطبيعة. ومن خلال هذه الحداثة الغربية يتم النظر إلى الغرب على أنه مركز الكون ولا معنى للإنسانية من دونه. (4)
مفهوم الحداثة عند طه عبد الرحمن
يمكن تعريف مفهوم الحداثة من الزاوية التاريخية بكونها مرحلة تاريخية بَلغتها مجتمعات إنسانية في مسارها التاريخي، والحداثة هي ملامح المجتمع الحديث المتميز بدرجة معينة من التقنية والعقلانية والتفتح، والحداثة كونيا هي ظهور المجتمع البرجوازي الغربي الحديث في إطار ما يسمى بالنهضة الغربية أو الأوروبية، هذه النهضة التي جعلت المجتمعات المتطورة صناعيا تحقق مستوى عاليا من التطور، مكنها ودفعها إلى غزو وترويض المجتمعات الأخرى(5 ).
مفهوم الحداثة عند أبي يعرب المرزوقي
يميل المرزوقي إلى ما يمكن اعتباره حالة جمع أو نقطة التقاء من منظور معين وفق منهج معين بين الإسلام والحداثة- الليبرالية هنا. يقول أبو يعرب: إذا ميزنا بين الإسلام وما نكص إليه المسلمون أمكن البحث عن مشتركات أو اختلافات بين رؤية الإسلام ورؤية الليبرالية لهذا الحد الأوسط بوجهيه -الفرد الإنساني الحر والمسؤول في النظامين الروحي والسياسي- أمكن الكلام على علاقة حقيقية بين الليبرالية والإسلام (6).
نقد الحداثيين العرب للتراث
عمل الحداثيون على التشكيك في التراث، وإن تفاوتوا في ذلك، حتى وصل بهم الحد ببعضهم إلى نزع القداسة عن القرآن والحديث وإلغاء علم الغيب، أو تجاهله، الذي هو أساس العقيدة الإسلامية ولعل محمد آركون من أكثر الحداثيين جرأة على الدين من خلال ما يسميه نقد العقل الإسلامي.
مفهوم نقد العقل الإسلامي عند آركون
يرى آركون أنه لا يوجد نقد علمي أو تحليل تفكيكي للعقل الإسلامي ، ويرى أن من مظاهر غياب هذا النقد اتساع دائرة اللا مفكر فيه l'impense والمستحيل التفكير فيه l'impensable في الفكر الإسلامي.
وعن منهجيته في النقد يقول إنه يحرص على الالتزام بمبادئ المعرفة العلمية مهما يكن الثمن الإيديولوجي والسوسيولوجي الذي ينبغي دفعه.
من الحقول التي ينبغي أن تكون محل بحث ونظر عند آركون:
- القرآن وتجربة المدينة
- جيل الصحابة
- رهانات الصراع من أجل الخلافة
- السنة والتسنن
- أصول الدين، وأصول الفقه، والشريعة
- مكانة الفلسفة (أو الحكمة) المعرفية وآفاقها
- رهانات العلمانية وتحول المعنى.
التحليل التفكيكي
يقصد آركون بالتفكيك القطيعة مع الميتافيزيقيا والخروج من سلطانها، فينبغي تقويض كل فكر غيبي ماورائي لإعادة البناء كما عند جاك دريدا وهايدجر. وفق هذا المنظور التفكيكي يدعو آركون إلى طرح الأسئلة باللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه، وذلك بدراسة حرة لا مشروطة.وقد وضع آركون خطوطا عريضة لتحقيق هذا التفكيك من أخطرها أنه ينبغي إعادة تفحص كل مكانة العامل الديني والتقديسي والوحي، ودراستها على ضوء النظرية الحديثة للمعرفة.
العقل الإسلامي الكلاسيكي عند آركون
يقدم آركون رسالة الإمام الشافعي باعتبارها نموذجا لما يسميه العقل الكلاسيكي.
ويلاحظ آركون أن القرآن حاضر في كل أنحاء الرسالة حيث استشهد الشافعي ب 220 آية، وأما الحديث النبوي فيشغل 105 صفحة ، وأما الفصل الرابع الخاص بالإجماع والإجتهاد فلا يشغل سوى 67 صفحة.
من هذه الملاحظة يستنتج آركون وجود عقل معين ومحدد بشكل صارم ومؤطر وموجه،ينمو ويترعرع داخل مجموعة نصية corpus ناجزة مغلقة على ذاتها ويقصد بها القرآن والحديث، كما يقول أحمد أبو عود (7)
والغريب هنا هو استدراك آركون على الإمام الشافعي إكثاره من الآيات والأحاديث في كتابه الرسالة ،فهل كان يريد منه مثلا أن يكثر من الاستشهاد بكلام الفلاسفة اليونانيين أو الحداثيين الذين سيأتون بعده بقرون طويلة.
فإكثار الإمام الشافعي من الاستشهاد بالآيات والأحاديث هو الأصل لأنه يريد أن يضع منهجا منضبطا لمعرفة مراتب الأدلة الشرعية.
ماذا قالوا عن الإمام الشافعي؟ يدعي بعض الحداثيين العرب أن منهج الشافعي أدى إلى سجن العقل العربي، فماذا قال أهل العلم والمستشرقون عن الشافعي؟
قال الإمام الفخر الرازي في كتابه "مناقب الشافعي": "كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلَّمون في مسائل من أصول الفقه، ويستدِلون، ويَعترِضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفةِ دلائل الشريعة، وفي كيفيَّة مُعارضتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي عِلمَ أصول الفقه، ووضع للخلق قانونًا كليًّا يُرجع إليه في معرفة مراتب أدلَّة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي
إلى علمِ الشرع كنسبة أرسطو إلى علمِ العقل".
مستشرقون أثنوا على الشافعي
المستشرق الألماني جوزيف شاخت (ت 1969):
قال إن الشافعي كان له أعظم الأثر في بيان طريقة القياس التي ظلت من مميزات علم الفقه.
المستشرق السوفيتي الروسي فاسيلي بارتولد (ت 1930):
أشار إلى دور الشافعي في تطوير الفقه الإسلامي وتأثيره على تطور التشريع.
كما أثنوا على علم الأصول.
فاسيلي بارتولد:
أشاد بعلم أصول الفقه كأحد الإنجازات الحضارية للإسلام، وأكد على أهميته في فهم الشريعة الإسلامية.
جوزيف شاخت:
اعترف ببراعة المسلمين في وضع قواعد أصول الفقه وأهميتها في استنباط الأحكام.
الجابري ونقد التراث
لم يكن الجابري مختلفاً مع غيره من القائلين بأن الحداثة ليست شيئاً آخر سوى القطيعة بعد قراءتنا لهذا التراث وليس قبل ذلك. فالتحرر من التراث تحرر من سلطانه الفكري، وهذا لا يحصل إلا متى كشفنا بالتحليل حدود ذلك السلطان الفكرية والتاريخية، أي: متى استوعبناه من أجل أن نتجاوزه. (8)
نقد الحداثيين العرب للحداثة
مع انتقاد الحداثيين العرب الشديد للتراث الإسلامي، وإن بقوالب مختلفة، فإن بعضهم ينتقد أيضا الحداثة أو بعض أوجهها.
فآركون الذي يعترف بأنه علماني ويؤمن بمزايا هذه المقولة، إلا أنه ينتقد بشدة مآل التجربة العلمانية في الغرب، وخاصة في فرنسا حين تحولت العلمانية من أداة للتحرر وحماية الاختلاف إلى أداة ضد الدين، بل أصبحت تمارس نفس الدور الذي كانت تمارسه الأديان... يقول في هذا السياق: إن العلمنة بالنسبة لي هي موقف للروح وهي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل إلى الحقيقة( 9 ).
الجابري ينتقد بعض الحداثيين
أشار الجابري في مؤلفه "نحن والتراث" إلى عبد الله العروي حيث يقول: يطرح بعض المثقفين العرب الذين يبدو أن صلتهم بالتراث الأوروبي أقوى من صلتهم بالتراث العربي الإسلامي مشكلة استيعاب الفكر العربي المعاصر لمكتسبات الليبرالية، قبل، وبدون، أن يعيش مرحلة ليبرالية ويقصدون بالليبرالية: النظام الفكري المتكامل الذي تكون في القرنين السابع عشر والثامن عشر والذي حاربت به الطبقة البرجوازية الأوروبية الفتية، الأفكار والأنظمة الإقطاعية.( 10)
نقد الحداثيين الغربيين للحداثة
انتقد عدد من الحداثيين الغربيين الحداثة ومنهم ميشيل فوكو الذي انتقدها في عدد من أعماله، أبرزها كتابه "الكلمات والأشياء" (Les Mots et les Choses). كما انتقد فوكو الحداثة في أعمال أخرى مثل "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي".
فقد انتقد فوكو فكرة كون الحداثة تمثل تقدمًا طبيعيا للعقلانية، بل يرى أنها شكل من أشكال السلطة والمعرفة التي أنتجت طرقًا جديدة للهيمنة.
نقد معادلة العقل والحرية:
يرفض فوكو فكرة أن العقلانية تؤدي بالضرورة إلى الحرية إذ يرى أن الحداثة ربطت العقل بالسلطة، وأن بعض أشكال العقلانية الحديثة يمكن أن تكون قمعية.
كما يرى أن الحداثة يجب أن تخضع للنقد والتحليل لفهم كيف تعمل هذه الأشكال من السلطة وكيف يمكن تحديها. عموما يرى المنتقدون أن الحداثة، على الرغم من إيجابياتها، قد أدت إلى عواقب سلبية على الفرد والمجتمع، مما أدى إلى ظهور حركة ما بعد الحداثة التي تسعى إلى إعادة تقييم الحداثة ومفاهيمها.
وانتقدها مفكرون غربيون آخرون مثل: إدغار موران و آلان تورين وزغمونت باومان.
نقد الحداثة عند منتقدي الحداثيين
نقد الحداثة عند المسيري
انتقد المسيري الحداثة الغربية بشدة ومع ذلك كان له موقف منصف منها. يرى المسيري أن الحداثة الغربية تمثل منظومة إمبريالية داروينية تحكمها العقلانية المادية فى إطار منظومة ثُنائية الإنسان والطبيعة، حيث يكون الإنسان المتأله، أي الذى يجعل نفسه مركز الكون والطبيعة.
لقد أراد المسيري من خلال تقصيه لظاهرة التحيز للنموذج المعرفي والحضاري الغربي على الخصوص، أن يوضح ويبيِن سلبيات بعض التحيزات التى تكون لحضارة على حساب حضارة أخرى؛ ذلك أن تحليل المسيري للحضارة الغربية فى صورتها المادية يكشف أن هذا التحيز للنموذج المعرفي الغربي ينطوي على نَوع من العنصرية والسيطرة ضد العالَم. كما يرى المسيري أيضا أن من أهم المنظومات، التى ينحاز إليها العالَم المتخلف الذي يقع أسير منظومة الغرب المعرفية والحضارية، هي منظومة الحداثة الغربية. لذا شن عليها هجوما كبيرا، منتقدا مصطلحات هذه الحداثة.
وإذا كان المسيري انتقد الحداثة عموما وما أسماه تحديدا فقه التحيز فإنه لم ينكر إبداعات الإنسان الغربي وأن النموذج الغربي يمكن التعامل معه دون قبوله كله ولا رفضه كله. إذ أكَد أن فقه التحيز لا يهدف إلى التقليل من القيمة الإنسانية لإبداعات الإنسان الغربي ولا إلي تحميله مسؤولية كل ما حدث لنا من مصائب، ولكنه يهدف إلى رؤية النموذج المعرفي الغربي، باعتباره إحدى التشكيلات الحضارية الإنسانية، لكن من دون أن يكون التشكيلة الوحيدة. وبالتالي سيكون بإمكاننا التعامل مع هذا النموذج من دون قلق، فلا نقبله كله ولا نرفضه كله، بل ندرسه كتشكيلٍ حضاري إنساني له سلبيات وإيجابيات. (11)
نقد الحداثة عند عبد الرحمن طه
استهل طه عبد الرحمن مشروعه الفكري بنقد ظاهرة الوعي المقلد في الفكر العربي، فهو يرى أن الفكر العربي في معظمه فكر مقلد لا صلة له بعالم الإبداع ف"المرء ليعجب أشد العجب من بعض المثقفين من بني جلدتنا الذين لا يجدون مذلة، ولا شناعة ولا حتى حرجا في تقليد الآخرين فيما استحدثوه من أنماط تفكيرهم ... جاعلين من تقليدهم عين اجتهادهم ومن جمودهم عين إبداعهم، فحسبهم من الحداثة أن ينقلوا عن غيرهم الفكرة تلو الفكرة، والعبارة تلو العبارة".
وائل حلاق ومشروع طه عبد الرحمن
عالج وائل حلاق مشروع طه عبد الرحمن في جانب الأخلاق في كتابه : " إصلاح الحداثة .. الأخلاق والإنسان الجديد في فكر طه عبد الرحمن".يجادل حلاق في كتابه هذا “ بأن مشروع المفكر المغربي طه عبد الرحمن ينطلق من الأسس المعرفية التي عبر بها معظم المثقفين المسلمين المعاصرين عن مشاريعهم الفكرية، لكنه يرفض بشكل منهجي أنماط التفكير التي هيمنت على المشهد الفكري الإسلامي منذ بداية القرن العشرين، بما فيها “القومية والماركسية والعلمانية والإسلام السياسي والليبرالية”.
وبدلا عن ذلك، يقدم طه عبد الرحمن طرقا بديلة للتفكير -بحسب حلاق- ويطور نظاما أخلاقيا قويا بهدف إصلاح الحداثة الحالية. ويرى حلاق أن مشروع طه عبد الرحمن الفكري هو أقوى شهادة على أن الأخلاق هي المجال المركزي للإسلام، ويعتبر أن مفهومه الجديد عن الإنسان العقلاني والروحي يعد نوعا من الترياق لمرض الحداثة في الزمن المعاصر، وينتج إنسانا مختلفا أخلاقيا في جوهره. فطه عبد الرحمن يشدد على الجمع بين الأخلاق والدين كأصل الأصول في مشروعه الفلسفي الأخلاقي، منتقدا “الحداثيين العرب” الذين يجيزون لأنفسهم انتقاد الديني بواسطة ما هو لا ديني، متسائلا “لم لا يجوز عند سواهم أن ينتقدوا اللاديني بواسطة ما هو ديني؟” ومستنكرا “لم لا يقبلون انتقاد الحداثة العلمانية بواسطة الأخلاق الإسلامية"؟!. (12)
نقد الحداثة عند إدوارد سعيد
انتقد إدوارد سعيد الحداثة في كتابه"الثقافة والإمبريالية" (Culture and Imperialism) . فهو يرى أن الحداثة الغربية كانت مرتبطة تاريخياً بالإمبريالية والاستعمار، وأنها أنتجت أنظمة معرفية وسياسية وثقافية ساهمت في تهميش الشعوب الأخرى وتشويه صورتها.
ويقدم سعيد في كتابه "الثقافة والإمبريالية" تحليلاً للعلاقة بين الثقافة الغربية والإمبريالية، حيث يوضح كيف استخدمت الثقافة الغربية كأداة لفرض الهيمنة على الشعوب المستعمرة. كما يوضح كيف أن الحداثة الغربية، على الرغم من ادعاءاتها بالتقدم والعقلانية، كانت متورطة في ممارسات استعمارية قمعية.
ويعد كتاب "الثقافة والإمبريالية" تكملة لكتابه السابق "الاستشراق" (Orientalism)، حيث يوسّع سعيد فيه نقده للحداثة الغربية ويربطها بالاستعمار والإمبريالية بشكل أوضح.
لكن الكاتب هاشم صالح يذكر بموقف آخر لإدوارد سعيد بشأن الاستشراق ورد في فصل مطول أرفقه مع كتابه المعروف عن الاستشراق جاء فيه:
«اسمحوا لي بدايةً أن أعبّر عن أكبر أسف لي وهو أن كتابي هذا فُهم على أساس أنه معادٍ للغرب بأكمله. فما إلى هذا قصدت. لقد اعتقد أصحاب هذا التفسير الخاطئ أني أعتبر الاستشراق صورة مصغرة عن الغرب كله. وانطلاقاً من ذلك استنتج هؤلاء أني أعتبر الغرب في كلّيته بمثابة عدو للعرب والمسلمين، إلخ... وأخيراً استنتج هؤلاء ما يلي: أن نقدي للاستشراق يعني دعم الإسلاموية أو الأصولية الإسلامية».
ويرى هاشم صالح أن هذا النص يعد تبرأ صريحا من إدوارد سعيد من " التفسير الخاطئ " الذي يجعل منه صديقا لما أسماه هاشم الأصولية الظلامية. (13)
تشكيك الحداثيين في التراث وطعنهم فيه
إن موقف رموز الحداثة العربية من الإسلام، بصفته وحيًا مُنزلاً وعقيدة وإيمانًا وقرآنًا وسنة نبويّة، قائم على التشكيك والطعن فيه من الأساس، ولم تعد المسألة تخص الإعتراض على أحكام فقهيّة خلافية محددة أو اجتهادية، بشعار التجديد في قراءة النص الديني لمواكبة روح العصر والعولمة، ومن أراد التثبت فليراجع كتابات أعلامهم المرجعيّة، وعلى رأسهم الجزائري محمد آركون. (14)
القطيعة النهائية
لعل زكي نجيب محمود وعبدالله العروي هما أكثر من عبر عن فكرة القطيعة النهائية مع الماضي ومع التراث في كتاباتهما الأولى. وهي فكرة غذّاها المنزع الوضعي العلموي للأول والمنزع التاريخاني الحداثي للثاني، وتقدير مشترك لمعنى التقدم يقترن مع الاعتقاد بأن هذا التقدم إنما يبدأ من نقطة معلومة: الفكر الحديث ومكتسباته المعرفية والعلمية. ولذا، بدا كل
اتجاه نحو التفكير في ما قبل نقطة البداية هذه فلسفة الأنوار مضيعة للوقت وغرق في أوحال الميتافيزيقا أو التقليد. وقد وجد هناك من بنى على هذه المقدمات كي يذهب برفضه للتراث إلى حدود العدمية وفي ظنه أن القطيعة مع التراث كموضوع تقود حكماً الى القطيعة مع الوعي التراثي.(15)
مراجعات الحداثيين العرب
تخضع الحداثة كأي نسق فكري معرفي للمراجعة والنقد وقد يتغير بعض الحداثيين فكريا في إطار الفكر الحداثي أو يتحولون تحولا انقلابيا بما يشبه الثورة على الحداثة أو التمرد عليها.
وفي هذا السياق نبه الكاتب صلاح سالم إلى تحولات معينة حصلت عند بعض الحداثيين العرب.
إذ يذكر أن زكي نجيب محمود انتقل من الوضعية المنطقية إلى النزعة التوفيقية، ومحمد عابد الجابري من نقد العقل العربي إلى تفسير القرآن، ومحمد حسين هيكل من تبجيل الغرب إلى اكتشاف الشرق، ومحمد عمارة وعادل حسين من اليسار الماركسي إلى اليسار الإسلامي.. .
وبين صلاح سالم أربعة دوافع لهذا التحول:
- الدافـع الأول معرفي، يتعلق إجمالًا بتراكم الخبرات الفكرية لدى المبدع مع كرّ سنوات العمر، بما يواكب ذلك من نضوج تدريجي بطيء وعميق في مواقفه من القضايا الكبرى كالنهضة والحداثة والهوية، يميل به نحو الاعتدال
- الدافع الثاني وجـودي حيث يسعى المفكر إلى التوافق مع المكونات الأساسية لهويته كلما طال به العمر وأشرف على الرحيل، بتأثير الخوف من الفناء، والذي يرتبط في الرؤية التوحيدية للوجود بحدث قيامي يتمحور حوله مفهوم الخلاص الروحي.
- الدافـع الثالث استراتيجي، يتعلّق بموجات التحوّل العالمي، فمثلًا، عندما انهار الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينيات القرن العشرين كان ذلك إيذانًا بمراجعات كبرى.
- الدافع الرابع يراوح بين الانتهازية واليأس، إذ ثمّة من تحوّل جذريًا عن مواقفه القديمة، وهاجم النظام السياسي الذي ترعرع في ظلّه واستمتع برعايته، بذريعة أنه استعاد وعيه المفقود، ولم يكن ذلك جوهريًا سوى طلب لاستمارة التحاق بالحاكم الجديد قدّمه رجل كتوفيق الحكيم إلى أنور السادات في صورة كتاب "عودة الوعي" إبان موجة الهجوم العارم على عبد الناصر ومشروعه (16).
من نتائج الحداثة
لعل من أهم نتائج الحداثة الغربية أو محاولة استنساخها في الثقافة العربية الإسلامية حصول حالة من التيه الفكري بدعوى التحديث والتجديد فإذا بالأمر سعي لإحلال ثقافة مستوردة بعجرها وبجرها واستبدال قيم حضارة أمة بقيم أخرى.
و أقرب تصوير لهذا الإحلال هو إحلال المستوطنين من شذاذ الآفاق في أرض فلسطين بعد إبادة وتشريد سكانها.
يتبع بعض الحداثيين العرب منهجا في نقد التراث يتسم بالعرج والاعوجاج ويتدرجون في تعاملهم مع التراث بداية بالتشكيك ثم الطعن وصولا إلى الإلغاء او الهدم والنسف فيبدأون بنقد التراث الذي انتجه علماء الأمة وفقهاؤها ثم يصعدون إلى الصحابة والسنة إلى أن يصلوا إلى القرآن الكريم ليطبقوا المناهج المعرفية الغربية فيلغون الوحي ويتجاهلون الغيب، ليصبح القرآن والسنة مجرد نصوص عادية قابلة للتفكيك والطعن فيها بل والتكذيب وفق مناهج وضعها فلاسفة الغرب الذين لا يؤمنون برسالة الإسلام أصلا بل وربما منهم الملحدون.
إن الحداثة على هذا النحو ليست سوى هدم للدين أو على الأقل زرع الشك في قلوب بعض أبناء الأمة خاصة من جيل الشباب..
هذا الهوس بالحداثة والتنكر للتراث والحرب على الشريعة إنما يترجم حالة ضعف نفسي وقابلية للاستلاب قياسا على عبارة المفكر الجزائري مالك بن نبي: القابلية للاستعمار .
أما الاستفادة من المعارف المفيدة ومن الإنتاج البشري النافع فذلك لا يعارضه المسلم لأن الحكمة ضالته أنى وجدها فهو أحق بها.
وأما التجديد الذي يراعي ظروف كل عصر، المبني على قواعد الشريعة ومقاصدها والذي حثت عليه النصوص الشرعية كما في الحديث الشريف "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" ، فذلك ما كنا نبغ، سواء كان التجديد فرديا أو جماعيا وهذا الذي تقتضيه أحوال العصر اليوم.
التجديد بين تيارين
ومع ذلك نقول إن من حسنات الحداثة التنبيه إلى ضرورة غربلة التراث المنتج بشريا فما يصلح لعصور خلت قد لا يصلح لعصرنا.
فالحداثة التي تؤسس لتجديد يراعي ثوابت الدين وقطعياته مطلوبة أما إن كانت حربا على الشريعة والمقدسات فهي لا تصلح لنا.
فالأمة في رحلة التجديد تعاني من تيارين، تيار جامد جمودا مميتا يتمسك بما انتجه الأولون دون تأمل في تغير الأحوال والظروف، وتيار جارف يشن حربا علنية او خفية على الهوية والثقافة وعلى الدين.
إن من أخطر أساليب الجامدين هو اتكاؤهم على بعض العبارات من قبيل: ما ترك الأول للآخر.
قال أبو منصور الثعالبي في كتابه "يتيمة الدهر": ومن ذا حظر على المتأخر مضادَّةَ المتقدم؟! ولِمَ تأخذ بقول من قال: ما ترك الأول للآخر شيئًا، وتدع قول الآخر: كم ترك الأول للآخر؟! وهل الدنيا إلا أزمانٌ، ولكل زمان منها رجال؟!
قال ابن مالك في مقدِّمة كتابه "تسهيل الفوائد، وتكميل المقاصد": "وإذا كانت العلومُ مِنَحًا إلهية، ومواهبَ اختصاصيةً فغيرُ مستبعَدٍ أن يُدَّخَر لبعض المتأخِّرين ما عسُرَ على كثيرٍ من المتقدِّمين، أعاذنا الله من حسدٍ يسدُّ بابَ الإنصاف، ويصدُّ عن جميل الأوصاف"
وعلَّق المرتضى الزَّبيديُّ على كلام ابنِ مالك فقال: "والمعنى أنَّ تَقدُّم الزمان وتأخُّرَه ليست له فضيلةٌ في نفسه؛ لأنَّ الأزمانَ كلَّها متساويةٌ، وإنما المعتَبَر الرجالُ الموجودون في تلك الأزمان، فالمصيبُ في رأيه ونقلِه ونقدِه لا يَضرُّه تأخُّرُ زمانِه الذي أظهره اللهُ فيه، والمخطئ الفاسدُ الرأيِ الفاسدُ الفهمِ لا ينفعه تقدُّم زمانِه.
انتحار الحداثة في غزة
باختصار انتحرت الحداثة أو ذبحت من الوريد إلى الوريد في غزة وتجاوزت حقبة ما بعد الحداثة إلى ما بعد بعد الحداثة...، خاصة فيما يتعلق بالجوانب السياسية والإنسانية والقانونية بما في ذلك احترام حقوق الإنسان والعدل واحترام سيادة الشعوب والدول واحترام القوانين والأعراف الدولية.
انتحرت الحداثة في غزة عندما شن حلف الناتو حرب إبادة على الأطفال والنساء والشيوخ والعزل في بقعة صغيرة المساحة محاصرة حصارا محكما، فأمدوا دولة الاحتلال بكل أنواع الأسلحة الفتاكة وقدموا أشكال الدعم المختلفة اقتصاديا وماليا وسياسيا ودبلوماسيا مع الدعم العسكري اللامحدود.
وفي المقابل منعوا عن غزة المحاصرة الغذاء والدواء والماء وحتى حليب الأطفال.. ولو كان بإمكانهم منع الأوكسجين لفعلوا.
ومع ذلك يمارسون النفاق في أوضح صوره فيتحدثون وإن باستحياء، ذرا للرماد في العيون، عن المجاعة في غزة دون أي خطوة عملية مع تكرار اسطوانتهم المشروخة: حق دولة الاحتلال في الدفاع عن نفسها.
المراجع :
1 - الحداثة وموقف الفكر الإسلامي منها “محمد عمارة أنموذجاً”. عمار وعد
2-كتاب الحداثة في فكر محمد آركون للكاتب الجزائري فارح مسرحي - مقال خالد غزال.
3 *- الحداثة وموقف الفكر الإسلامي منها “محمد عمارة أنموذجاً”.*
4- مفهوم الحداثة ونقدها عند عبدالوهاب المسيري
5- مؤسسة مؤمنون
6-الذاتية والحداثة – أبو يعرب المرزوقي
7- الظاهرة القرآنية عند محمد آركون،
تحليل ونقد أحمد بوعود
8- ملاحق الخليج
ملحق الخليج الثقافي
9- مؤسسة مؤمنون
10- الحداثة والتراث بين مشروع الجابري وطرح العروي
محمد النحيلي
11- مفهوم الحداثة ونقدها عند عبدالوهاب المسيري مؤسسة الفكر العربي مقال للباحث «عماد إبراهيم عبدالرازق» - الشروق
12- حلاق وعبد الرحمن وحوار إصلاح الحداثة- إسلام أون لاين.
13- هل اعتذر إدوارد سعيد؟
هاشم صالح الشرق الأوسط
14- الحداثيون العرب… المشكلة مع الإسلام! عبد الحميد عثماني
2024/06/23 إسلام أون لاين.
15 - ملاحق الخليج
ملحق الخليج الثقافي .
16- في مراجعات الحداثيين العرب، صلاح سالم ، موقع عروبة