
في سياق إقليمي يتسم بالهشاشة والفقر وتصاعد التهديدات الإرهابية، تبرز الحاجة الماسّة إلى تبني رؤية دفاعية واضحة وفعالة. وقد افتقدت بعض دول الساحل، وفي مقدمتها مالي، هذا النوع من الرؤية، ما أدى إلى انهيار أمني مستمر.
فبغياب استراتيجية سياسية وعسكرية جادة، تمكنت حركة "ماسينا" المتشددة من بسط سيطرتها على أجزاء واسعة من الأراضي المالية، بما في ذلك مناطق محاذية للحدود الموريتانية، ما يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي الموريتاني، ويعكس فشل المنظومة الدفاعية في مالي في مواجهة التحديات المتصاعدة.
ورغم التشابه النسبي في السياقات الجغرافية والديموغرافية بين موريتانيا ودول الساحل الأخرى، وخصوصاً مالي، فإن موريتانيا تبنت مساراً مختلفاً في مقاربتها للأمن والدفاع، وهو ما انعكس بوضوح على مستوى الاستقرار الداخلي والسيطرة على المجال الترابي.
اختارت موريتانيا نهجاً سيادياً مغايراً، تمثل في سياسة دفاعية استباقية تعتمد على المهنية والاعتماد على الذات. كما خضعت المؤسسة العسكرية لإصلاحات تنظيمية وتكوينية شاملة مكنتها من إحكام السيطرة على الأراضي والحدود، ومنع التغلغل الإرهابي، في وقت عانت فيه دول الساحل الأخرى من انهيارات أمنية متكررة.
وترتكز العقيدة الدفاعية الموريتانية على:
تعزيز الانتشار العسكري في المناطق الحدودية الحساسة؛
تطوير مراكز التدريب والتأهيل العسكري؛
تحديث العتاد واستخدام وسائل المراقبة الحديثة؛
تقليص الاعتماد على القوى الأجنبية في العمليات القتالية.
في المقابل، تبدو السياسة الدفاعية في مالي ارتجالية، تقوم على الاستنجاد المتكرر بالقوى الأجنبية، بدءاً بفرنسا، ثم مجموعة فاغنر الروسية، وصولاً إلى الحضور العسكري التركي، ما أضعف من سيادة القرار العسكري الوطني. كما فشلت السلطات المالية في فرض الانضباط داخل الجيش، ما أدى إلى انشقاقات وصراعات داخلية متكررة، بما في ذلك الانقلابات المتتالية.
وعلى الرغم من الإنفاق العسكري المرتفع نسبياً في مالي (4% من الناتج المحلي)، فإن نتائج هذا الإنفاق على الأرض تظل محدودة، إذ لا تزال مساحات شاسعة من شمال ووسط البلاد خارج سيطرة الدولة، وتُستخدم كنقاط ارتكاز للتنظيمات المسلحة العابرة للحدود.
ويؤكد الواقع أن حجم الإنفاق أو توفر العتاد لا يضمن وحده الفاعلية، بل إن وضوح الرؤية، وصلابة القيادة، وتماسك القرار الوطني، هي المحددات الحقيقية للنجاح.
خاتمة
تجسد التجربة الموريتانية في المجال الدفاعي نموذجاً يُحتذى به في إفريقيا، وتثبت أن الأمن لا يُشترى بالتحالفات، ولا يُستورد من الخارج، بل يُبنى بإرادة وطنية، واستثمار مستدام في الإنسان والمؤسسات، ووضوح في الرؤية والقرار.