
أواه اليدالي
يجمع خبراء الاقتصاد وعلماء السياسة والاجتماع على أن الثروة البشرية هي أهم الثروات وأدومها وأقلها عرضة للنضوب والاستنزاف ولذلك عملت وتعمل الدول الرائدة على خلقها وتكوينها لإنشاء نظام تعليمي ناجح مبدع يفجر الطاقات الخلاقة، وتنفق وبسخاء كبير على التعليم دارسين ومدرسين وما مثال اليابان وكوريا الجنوبية ، وسنغفورة وماليزيا وتركيا عنا ببعيد، فقد كرست هذه الدول ومنذ الستينيات مبالغ ضخمة لتمويل التعليم فكونت ثروة بشرية استطاعت خلال مدة وجيزة نقل تلك البلاد من هوة التخلف السحيقة إلى قمة التنمية والازدهار. وفي بلادنا موريتانيا تكونت نواة للتعليم خلال عقدي الستينيات والسبعينيات كان يمكن البناء عليها بيد أن الرياح أتت بما لا تشتهيه سفن التعليم ولا الدارسين ولا المدرسين، فقد أدى حكم العسكر منذ أواخر السبعينيات وتقلبهم وانقلاباتهم -التي قلبت الدولة الموريتانية رأسا على عقب- إلى إهمال التعليم وتهميش المدرسين فانخفضت المستويات، وتحولت المخرجات التعليمية إلى ما يشبه الأميين وأشباه الأميين وفي أحسن الحالات أنصاف المثقفين، كما أزداد التسرب المدرسي وأصبح جل المدارس لا تسمى مدارس إلا من باب المجاز أو الخيال المجنح فلا قاعات تصلح للدراسة ، ولا مختبرات ولا تهوية ، ولا معايير للتسجيل فمن العادي أن يحشر مائة تلميذ أو أكثر في حجرة تسع – بالبركة – أربعون تلميذا ناهيك عن انعدام الوسائل التعليمية كالكتب، والأدوات المخبرية ووسائل الإيضاح .!!!
وفي هذا العام الذي أعلنته الحكومة سنة للتعليم كان من اللازم والمؤمل والمرجو أن تتخذ إجراءات عملية تجعل العام فعلا عاما للتعليم لا شعارات استهلاكية لعل من أهمها :
1- إعطاء المدرسين حقوقهم كاملة غير منقوصة : فالمدرس أستاذا أو معلما هو حجر الزاوية في العملية التربوية ولذلك تعطيه الدول الرائدة أكبر راتب من رواتب عمالها، فقد حدث أن أضرب الأطباء الأخصائيون ذات مرة في ألمانيا للمطالبة بمساواتهم مع الأساتذة فكان جواب الحكومة أن ذلك مستحيل لأن الأساتذة هم المعمل البشري الذي يخرج العمال المهرة، والخبراء والأطباء والقضاة ورجال الأمن، والوزراء والسفراء وكل من يدب في الدولة فلهم الفضل على غيرهم .
كما أنه في فرنسا مثلا يقضي سلم الرواتب بأن الفرق بين التعليم العالي والتعليم الثانوي من حيث قيمة الراتب يظل في حدود قليلة .
وهكذا الحال في اليابان وفي جمع الدول الرائدة في العالم.على عكس الحال عندنا فقد جمدت الرواتب عموما طيلة عقود من الزمن وخصوصا رواتب الأساتذة فقد كانت قيمة راتب الأستاذ في الثمانينيات تسمح له بشراء ناقة حلوب أو اثنتين أو بقرات حلائب، كما كان باستطاعته أن يلبس أفخر الثياب بعد وفائه بتكاليف الغذاء (الصاير) ، هذا طبعا قبل قرار تخفيض قيمة العملة سنة 1992 ذلك القرار المشؤوم الذي قضى بتخفيض قيمة الأوقية بتسعين في المائة أمام العملات الأجنبية فأصبح الدولار مثلا بمائيتي وأربعين بدلا من مائة وعشرين ( وجدير بالذكر أنه عند إنشاء العملة كان الدولار بثمانية وعشرين أوقية فقط وفي السوق السوداء ) وقد كان من نتائج هذا القرار أن فقد الراتب 90% من قيمته مما زاد من إفقار الموظفين عموما والأساتذة خصوصا حتى أصبح ظرفاء الموريتانيين يروون من نكتهم أن العمل للحكومة له ( أربعة دالات :الدين – الدفرَة – الدّيْليكْ- الدّحْسَ). كما أطلقوا على العملة الوطنية بعد التخفيض هذا (فظة أصحاب الكهف).
لقد كان حريا بالحكومة أن ترفع رواتب المدرسين كما فعلت لسلك القضاء وإقرار نظام أسلاك التعليم وصرف علاوات التعليم بطريقة منتظمة على كشوف رواتبهم بدلا من التقسيط غير المريح ( بتكْ) المعمول به حاليا ، كما أن مراجعة التعويضات المنزلية بات ضروريا لأنها أصبحت تذكر بالعصر الحجري !!!كما أن مختلقات العرب أو العجم التي تحسب عليها وزارة المالية الرواتب عفا عليها الزمن ولا بد من تغييرها كالعلامة القياسية التي لا تقيس سوى العدم !! والراتب الأساسي الذي يعلم الجميع أنه لا هو أساسي ولا هم يحزنون!!
2- وضع إستراتيجية تعليمية يضعها الخبراء التربويون وأصحاب التجربة والخبرة والأساتذة الميدانيون تستلهم تجارب الدول الناجحة وتنطلق من واقعنا وتجاربنا في الماضي وتصورنا للمستقبل حتى نمير أهلنا ونحفظ وطننا ونزداد كيل تنمية واستقرار .
3- إعادة الحيوية إلى مؤسسات التكوين كالمدرسة العليا للتعليم حتى تستطيع مواكبة الزمن وتزويد الأساتذة الخريجين بالخبرة الضرورية لممارسة التدريس طبقا للنظريات التربوية الحديثة ووقف اكتتاب العقدويين من الشارع ، والجوع إلى النظام المنصوص عليه قانونيا في قانون الوظيفة العمومية وهو أن الدخول في الوظيفة لا يتم إلا عن طريق المسابقات الانتقاء الأكفأ والأجود خاصة أن التعليم ليس ميدانا مؤقتا للعمل بل هو مستمر وحاجاته معروفة سلفا لأهل الميدان .
4- التوافق حول لغة للتعليم فليس من المعقول أن نظل نحوم ناحية اليمين أو الشمال مثل الانتقال من الفرنسية إلى الازدواجية ثم القفز إلى العربية في جانب والفرنسية في جانب ( إصلاح 1979 ) إلى النظام الهجين الحالي ( إصلاح 1999)وأخشى ما نخشاه أن نتحول إلى الإسبانية أو الصينية 2019 !!
إن التعليم هو جوهر هوية الأمم وعماد مستقبلها وصانع حاضرها وما لم يتصدر سلم الأولويات سنبقى كمن يدور في حلقة مفرغة .