
المقدمـــــة
هذا كتاب في معاني الصلاة وآثارها في حياة المسلم ، من حيث أنها أم العبادات وأنها تربية كاملة للمسلم تورثه نفساً مُشربة بمعاني الايمان جميعاً وحياة طيبة عامرة بالعبادة وصالح الأعمال .
وهو بيان للحكم البالغة والمقاصد الجليلة التي جعلت من شعيرة الصلاة عماداً لكل شعب الإيمان، وقاعدة لكل صنوف الطاعات، حتى كادت أن تكون جماعاً لأركان الدين، تمثل كلاً منها بوجه ما وتحتويها جملة في صورة مصغرة وحتى استحقت أن تكون أوجب واجبات الإسلام العملية.
والكتاب من خلال ذلك يلقي ضياء على تكامل تعاليم الإسلام ووحدة المعنى التي تربط عراه ، بما يكشف عن الاتساق والتلازم بين الصلاة وبين سائر العبادات ، بل بينها وبين تكاليف الدين في شتى نواحي الحياة .
ولا ريب أن الصلاة طاعة يدخرها صاحبها للدار الآخرة وعبادة يبتغي بها وجه الله ويرجو مفازاً وأجراً كريماً في حياة الخلود . ولكن هذا البحث إنما يعالج بيان آثارها في عاجل أمر المصلي ، وكيف تنبسط تلك النتائج وتتشعب في جوانب حياة المسلم فتزيده خيراً ورشاداً وتبارك في المنتهى حسن عاقبته يوم الدين . ولئن كانت الصلاة شعيرة تعبد محض واجبة الأداء مهما قصر إدراك المصلي لأبعاد حكمتها ، أو كانت آثارها وبركاتها ربما تحصل له من حيث لا يستشعر ، فإن تمام الفقه بوظائفها يزيده اطمئناناً إلى تعظيم أمرها وأن الفقه بمقاصدها يضاعف ثمارها في نفسه وحياته .
وقد اشتهر مباحث التعليل واستنباط الحكمة في أبواب المعاملات من الفقه الإسلامي نسبة لقلة النصوص واختلاف الظروف والمصالح ، مما يدعو إلى تفهم المقاصد الكلية للأصول الشرعية والبناء عليها بالقياس والاجتهاد ، بينما غلب على فقه الصلاة سرد الأحكام وتفاصيل الفروع . ولكن الحاجة لتجديد أمر المسلمين في شأن الصلاة تدعو لتعميق العلم بمعانيها وحكمها ليهتم بها المسلمون ويحسنوا أداءها ويحققوا الأغراض الجليلة المنوطة بها .
وفضلاً عن ذلك فإن توثق أسباب الاتصال بين العالم قد ضاعف فرص الدعوة الإسلامية ، واستوجب علينا عرض أحكام الإسلام ومبادئه بمعايير التفاهم العقلي التي تقربها لغير المؤمنين وقد أدى اتساع العلم بالطبيعة وتجلي الوحدة والاتساق في نواميسها إلى شيوع النظر المنهجي الفاحص والدراسة الشمولية لشئون الحياة ، مما يتيح للمسلمين – إذا ما أبرزوا نظام الإسلام بنهجه المتكامل وحكمته البالغة – هداية المفكرين الضالين الذين زَهّدهم في الدين طقوس غير مفهومة وتقريرات غير معقولة وشتات تعاليم غير منظومة .
وإذا وردت أحكام الصلاة في هذا الكتاب فلا ترد بالتبويب المعهود ، ولن يقصد منها استقصاء الفروع أو إثبات الأصول الشرعية ، فتلك مسائل أوفتها بالدراسة كتب فقه المذاهب وفقه الأصول ، فما من مسألة عني بها فقهاء الأحكام كالصلاة ، أحصنوا أعمالها وفصلوا تكاليفها من الفرض والندب إلى الكراهة والتحريم ووضحوا أوضاعها من شروط وأسباب وما يكتنفها من رخص وعزائم وما يعتريها من وجوه الصحة والفساد وحققوا حجية كل حكم فيها بالرجوع إلى الأدلة الشرعية.
ويشتمل الكتاب على طائفة من أذكار الصلاة مما يزيدنا فقهاً بمعانيها وأغراضها ، ولكنه لا يحصى كل مأثور الذكر في هذا المجال ، فقد جَرَّدتُ لأقوال الصلاة دراسات واسعة في كتب الحديث والأذكار .
وليس من شأن الكتاب كذلك أن يستفيض في شرح الأحوال النفسية التي تنشأ في الصلاة أو من أثرها ، فتلك أمور رهينة بأسرار التركيب الشعوري لكل فرد متدين. والصلاة بهذا الوجه تجربة شخصية يذوق فيها المصلي من اللطائف الخاصة ما لا يحيط به التعبير ولا يحده إلا حظه من الايمان .
بل إنه لا مطمع في أن تحيط هذه الورقات بكل المعاني والآثار العامة للصلاة – وهو صميم الموضوع الذي تتناوله – لأن حكمة الصلاة علم لا يتناهى لفكر بشر . وإنما نحاول أن نوسع آفاق علمنا ونزداد فقهاً ، لا سيما أن عامة المسلمين قد قنعوا من الصلاة بمراعاة أحكام الأداء الشكلي حتى فرطوا في كثير من فوائدها المرجوة وحتى اغتر بعض غلاة الشاطحين فعدوها شكلاً ووسيلة يتجاوزها الواصلون !
ولعلّ شيئاً من التأمل في صلاة الفرد والجماعة وفي معانيها من حيث المظهر والمضمون وفي آثارها في النفس والحياة – يعيننا على فهمها فنقدرها حق قدرها ويكشف مدي خسراننا بإضاعتها فنحفظها ونقيمها ونجني ثمارها الطيبة .
فهذا الكتاب خطاب :
* إلى المصلين الساهين عن معنى ما يؤدونه إلا مراعاة لمجتمع رقيب أو وفاء بتقاليد أسرة صالحة أو مناصرة لمظهر عصبية دينية !
* وإلى الذين تركوا الصلاة وما زال في نفوسهم جذوة من إيمان وقبس من دين لم يمرقوا من ملة الإسلام ولكنهم جهلوا حكمة تلك العبادة فلم يبالوا بها وهي أوجب الواجبات .
* وإلى أبناء المسلمين الذين هجروا دين آبائهم حجبهم عن نوره الجهل الموروث وفتنهم الفكر اللاديني الجامح الخارج على الديدنات المظلمة .
* وإلى الغرباء عن الإسلام الذين ينشدون علماً بحقائقه .
والله ولي التوفيق .
الصًّلاة أولىَ الفرائِض العَمليّة في الدّين
1- الشعيرة الباقية عبر الرسالات :
الصلاة عبادة تحقق دوام ذكر الله والقربي من جنابه . وتمثل تمام الطاعة والإسلام لله والتجرد له وحده بلا شريك .
وتربي النفس على معاني التقوى والإنابة والصبر والتوكيل والجهاد ، ونهيئ المؤمن لحياة صالحة بين جماعة المؤمنين .
فهي عمل من صميم التدين ولذلك كانت سنة مطردة على تعاقب رسالات السماء ، تكليفاً من الله يلتزم بها أولئك المصطفون الأخيار الذين حملوا أمانة النبوة وعبء الرسالة ، يوثقون بها أسباب الاتصال بالله ويتهيأون لتلقِّي الوحي والإلهام ويتزودون طاقة روحية تُعينهم على أثقال الرسالة ومجاهداتها ، ثم وصية يوصون بها عشيرتهم الأقربين وبلاغاً يؤدونه إلى قومهم المؤمنين .
فذلك إبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام يدعو ربه لنفسه ولذريته : ) رَبَ اجْعَلْني مُقيِمَ الصّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء[1] ( . ومضى في الساجدين لتبقى الصلاة في عقبه : ) وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافلَة ً وَكُلاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أئِمّة ً يَهْدُونَ بِأمْرِنَا وَأوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإقَامَ الصّلاةٍ وإيتَاءَ الزّكاةٍ وَكانُوا لَنَا عَابِدِينَ [2]( . وعلم إبراهيم أن في إقام الصلاة إعماراً لمراكز الدين والعبادة وقياماً بشئون القيادة والإمامة الدينية التي كان يرجوها من بعده لذريته ، فهو يدعو الله أن يلين قلوب الناس لتنقاد لأبنائه المصلين : ) رَبًّنَا إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْع ٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرّمِ رَبّنّا لِيُقِمُوا ً الصّلاة َ فَاجْعَلْ أفْئِدَة ً مِنَ النّاس ِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنِ الثّمَرَات ِ لَعَلّهُمْ يَشْكُرُونَ1 ( . وقام إسماعيل من بعد أبيه كذلك بسنة الصلاة ووصى بها أهله : ) وَاذْ كُرْ في الكِتَابِ إسْمَاعِيلَ إنّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكانَ رَسُولا ً نَبِيّا ً * وكانَ يَأمُرُ أهْلَه ُ بِالصّلاة ِ وَالزّكاة ِ وًكان َ عِنْد َ رَبِّه ِ مَرْضِيّا َ(2 .
وهذا موسى عليه السلام يتلقى التكيف من ربه تكليما ً بعبادة الله وإقام الصلاة أم العبادات : ) إنّني أناَ الله ُ لا إلَه َ إلا ّ أنَا فًاعْبُدْني وَأقِم ِ الصّلاة َ لِذِكْرِي [3]( . وكانت الصلاة فيما أخذ على بني إسرائيل من ميثاق : ) وَإذ ْ أخَذْنَا مِيثَاق َ بَني إسْرَائِيل َ لا تَعْبُدُون َ إلا ّ الله َ ... وَ أقِيمُوا الصّلاة َ وَآتُوا الزّكاة َ ثُمّ تَوَلّيْتُمْ إلا ّ قَليلا ً مِنْكُمْ وَأنْتُمْ مُعْرِضونَ [4]( . وكانت زادهم من التقوى في ظروف المحنة : ) وَأوْحَيْنَا إلى مُوسى وَأخِيه أنْ تَبَوّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتا ً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَة ً وَأقِيمُوا الصّلاة َ وَبَشّرِ المُؤمِنِينَ ( [5] .
واعتصم شعيب عليه السلام بسنة الصلاة فكانت في أهل مدين مظهر الدعوة الجديدة حتى جعلوها علة لما ينصحهم به رسولهم من نبذ الشرك الموروث والإقلاع عن الظلم الاقتصادي : ) قَالُوا : يَا شُعَيْبُ أصَلاتُكَ تَأمُرُكَ أنْ تَتْرُكَ ما يَعْبُد آبَاؤنَا أوْ أنْ نَفْعَل في أمْوَالنَا مَا نَشَاءُ إنّكَ لأنْتَ الحَلِيمُ الرّشِيدُ ([6] .
وكانت الصلاة في موعظة لقمان الحكيم لابنه )يَا بُنَيَّ أقِم ِ الصّلاة َ وأمُرْ بِالمَعْرُفِ وَإنْهَ عَن ِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أصَابَكَ إنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْم ِ الأمُورِ[7](.
وجارة المحراب مريم ابنة عمران جاءتها الملائكة بأن تقنت وتصلى للذي طهرها واصطفاها على نساء العالمين : ) يَا مَرْيَمُ اقْنُتي لِرَبِّك ِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي ِ مَعَ الراّكِعِيِنَ( [8]
ثم أتى عيسى بن مريم عليه السلام يعلن في مستهل منطقه المعجز أن الله اختصه بالكتاب والنبوة والبركات وأوصاه بالصلاة طول الحياة : )قَالَ إني عَبْدُ الله ِ آتَاِنيَ الكِتاَبَ وَجَعَلنَي نَبِيّا ً وَجَعَلنَي مُبَارَكاً أيْنَ ماَ كُنْتُ وَأوْصَانِي بِالصّلاة ِ وَالزّكاة ِ مَا دُمْتُ حَيّاً [9]( .
فما انفكت الصلاة في عداد الشعائر والتعليم الخالدة التي لازمت هذا التراث الديني الذي هو الإسلام والذي تتابع الوحي وتوالت الرسل تجدده وتحيى سننه ، بل كانت أبرز المعالم في توجيهات الإسلام العملية و أوكد الوصايا التي خوطب بها الرسل بعد التوحيد ، وكذلك كان شأنها في الإسلام كما بعثته وأتمته خاتمة الرسالات .
2- فريضة الله الأولى في الإسلام :
لعل الصلاة كانت في كل الرسالات أولى الفرائض العملية التي جاءت لتصديق عقيدة الإيمان و تنفيذ معنى العبادة لله .
فقد كان أول خطاب الله لموسى الكليم مشتملاً – بعد تعريف ربه به و إعلامه بأنه اختير للتلقي و التبليغ – على الأمر بعبادة الله و إقام الصلاة لذكره : ) فَلَمّا أتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسى إنيّ أنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ، وَأنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ,إنَّي أنَا اللهُ لا إلَهَ إلاَّ أنَا فَاعْبُدْني وَأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْري ( [10].
ولما بُعث محمد – عليه الصلاة و السلام – رسولاً من الله ومصدقاً لما بين يديه وشاهداَ على وحدة دين الإسلام شرعت له الصلاة في مثل المرحلة التي شرعت فيها لموسى عليه السلام :
فقد بدأه الوحي بمطالع السور الأولى فنزل عليه جبريل لأول العهد في حِراء بمستهل سورة العلق[11] ولقنه قرآناً باسم الله يصف له من صفات ربه الحسنى : ) إقْرَأ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * إقْرَأ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذي عَلَّمَ بالقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لمْ يَعْلَمْ [12]( . ثم فتر عنه الوحي فلما عاده المَلَك مره أخرى فزع منه إلى أهله وادَّثر فنزل عليه مطلع المدثر[13] وفيه التكليف بأن يقوم في الناس منذراً مكبراً ربه و الأمر بأن يطهر ثوبه توطئة لإقام الصلاة التي نزلت بها الآيات الفواتح من سورة المزمل : ) يا أيّها المُدّثّرْ قُمْ فَأنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَ ثِيَابَك فَطَهِّرْ [14]( .
وكانت الصلاة – مع القرآن وذكر الله والتوكل عليه – عدة الرسول الأولى لتحمل أثقال الوحي والنبوة وللصبر على حملة التكذيب : ) يا أيهَا المُزّمَلُ قُم اللّيْلَ إلاَ قَلِيلا ً * نّصْفَهُ أوِ انْقُصْ مِنْهُ قَليلا ً * أَوْ زِدْ عَلَيْه وَرَتِّل ِ القُرْآنَ تَرْتِيلا ً * إنّا سَنُلْقي عَلَيْكَ قَوْلا ً ثَقِيلا ً * إنّ نَاشئَة َ اللّيْل ِ هِيَ أشَد ً وَطْئا ً وأقْوَمُ قِيلا ً * إنّ لكَ في النّهَارِ سَبْحا ً طَوِيلا ً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّك َ وَتَبَتّلْ إلَيْهِ تَبتْيلا ً * رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا ً * وَاصبِرْ عَلى مَا يَقُولونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرا ً جَمِيلا ً[15]( .
ولما اكتملت سورتا العلق والمدثر ورد في لاحق آياتهما ذكر الصلاة إذْ أنها كانت أسبق مظاهر الدين الجديد فأصبحت الهدف الأول لكيد المكذبين : ) أرَأيْتَ الّذي يَنْهى عَبْدا ً إذا صَلّى[16] ( وأنها أول عمل كفر به أولئك المكذبون وأول ما يندمون على تضييعه يوم القيامة : ) ما سَلَكَكُمْ في سَقَرَ ؟ قاَلُوا : لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلَينَ ... ([17] .
ثم إن القرآن الذي اتخذ فرضا ً لازما ً في الصلاة هو الآيات السبع المثاني التي تتألف منها رابعة سور القرآن نزولا ً وفاتحة كتاب الله ترتيبا ً .
وكانت الصلاة أول حكم يطرأ عليه التخفيف بعد التكليف لأنها كانت أولى الفرائض العملية . وقد نزلت به خواتيم المزمل التي جاءت بعد نحو عام من نزول فواتحها لتنسخ فرض قيام الليل الذي كان الجد فيه لازما ً لظروف الدعوة الأولى ولترفع الحرج وتجعل القيام نفلا يناسب حاضر المسلمين إذ تكاثروا وأعجزت بعضهم ظروف الصحة وكسب العيش ويوافق ما كانوا يستقبلون من ظروف القتال في سبيل الله .
وتؤكد السيرة ما تشهد به أوليات القرآن ، فقد روي أن جبريل قام بتعليم النبي r كيفية الوضوء والصلاة في أول عهد البعثة ، وعلمها الرسول زوجه خديجة وسائر الصفوة التي سبقت إلى الإيمان ، وكان هو وأصحابه يذهبون في شعاب مكة يستخفون بصلاتهم تقية من أذى قومهم ثم جهر بها وأقامها في الملأ بالمسجد الحرام وهناك تهدده أبو جهل ونهاه فنزل فيه القرآن المتقدم ذكره من سورة العلق .[18]
ولما أراد الله أن يحكم فرض الصلوات بكتابها الموقوت لم ينزل بها ملكا ً على الأرض وإنما أنعم على رسوله الكريم بمعراج إلى السماء[19] وهنالك مثل بين يدي ربه وتلقى من لدنه هذا التكليف الجليل . وحق للصلاة أن تعظم هذا التعظيم من دون سائر الشعائر والتعاليم وأن تؤخذ عن قرب من جوار الله لأنها مطية القربى منه والوقوف بين يديه ولأنها معراج متاح لكل مسلم إلى ربه يفزع إِليه ليؤويه بالأمن والسكينة كما آوى عبده ورسوله بالمعراج في فترة حرج بالغ اشتد به فيها صدود الكفار وأذاهم وأوحشه فقد المؤنس والنصير بعد هجرة أصحابه إلى الحبشة ووفاة زوجه وعمه عام الحزن .[20]
وكما كانت الصلاة أول شعيرة تفرض في مكة فقد كانت كذلك أول عبادة تكتمل بالمدينة ، فقد فرضت ركعتين ركعتين حتى هاجر النبي r فزيد في صلاة الحضر[21] وفي المدينة أتمت بعدها سائر شعائر العبادة ، فاوجب صيام رمضان وكتب الحج إلى البيت الحرام وعينت مقادير الزكاة كما فرضت معظم التكاليف العامة في الإسلام .
فالصلاة بعد العقيدة في أول واجبات الإسلام خوطب بها النبي r وقد حاءه الأمر بها في ذات السورة التي روت حديث الإسراء : ) اقِم ِ الصّلاة َ لِدُلُوك ِ الشّمْس ِ إلى غَسَقِ الليْلَ وَقُرْآنَ الفَجْر ِ إنّ قُرْآنَ الفَجْر ِ كَان مَشْهُودا ً ، وَ مِنَ الليْل فَتَهجّدْ بِهِ نَافِلَة ً لكَ عَسَىَ أنْ يَبْعَثَك َ رَبُّكَ مَقَاما ً مَحْمُودا ً[22] ( فضلا ً عن سوالف الأمر له بالصلاة : ) وأقِم ِ الصَلاةَ طَرَفي ِ النّهَارِ وَزُلَفا ً مِن الليْل ِ إنّ الحَسَنَات ِ يُذْهِبْن َ السّيّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذّاكِرِينَ[23]( ) اتْلُ مَا أُوحيَ إلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وأقِم الصّلاة َ إنّ الصّلاة َ تَنْهَى عَن ِ الفَحْشَاء ِ والمُنْكَر وَلَذ ِ كْرُ الله أكْبَرُ والله ُ يَعْلَم ُ مَا تَصْنَعُون َ[24] ( والوصاة له بأن يأمر بها أهله : ) وَأمُرْ أهْلَك َ بِالصّلاة ِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْالُك َرَزْقا ً نحن نَرْزُقُك َ وَالعَاقِبَة ُ للتّقْوَى[25] ( وقد ورد بالصَلاة كذلك توجيه مخصوص لنساء النبي r : ) وَقَرْن َ في بِيُوتكُن َّ وَلا تَبرّجْن َ تّبرُّج َ الجَاهِليّة ِ الأوْلى وَأقِمْنَ الصّلاة َ وَآتِينَ الزّكاة َ وَ أطِعْن َ الله وَرَسولَهُ إنّما يُريدُ الله ليذهب عَنْكُمً الرّجْس َ أهْل َ البَيْت ِ وَيطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا ً[26]( .
والصلاة لأمة الرسول كذلك هي أول عمل تخاطبهم به دعوة الإسلام : )وَهَذَا كِتَابٌ أنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِر َ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالذِين َ يُؤمِنُونَ بِالآخِرَة ِ يُؤمِنُونَ بِه ِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ[27] ( ) قُلْ لِعبَادي َ الذَين آمَنُوا يُقِيمُوا الصّلاة َ وَيُنْفِقُوا مما رَزَقْنَاهُمْ سِرا ً وَعَلانِيَة ً مِنْ قَبْل ِ أنْ يِأتي َ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيه ِ وَلا خِلالٌ [28]( ، ) يَا أيّهَا الذِين آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْر َ لَعلّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا في الله ِ حَق َّ جِهَادِه هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَل َ عَلَيْكُمْ في الدّين ِ مِنْ حَرَج ٍ مِلة َ أبِيكُمْ إبرَاهيمَ هوَ سَمّاكُمُ المُسلِميِينَ مِنْ قَبْلُ وَفي هَذَا لِيكُونَ الرّسُولُ شَهِيدا ً عَلَيْكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النّاسِ فَأقِيمُوا الصّلاة َ وَآتُوا الزّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا باِلله ِ هُوَ مَوْلاكُمْ فِنِعْمَ المَوْلى وَنِعْمَ النَصِيرُ ([29] .
وهي أيضا ً من بين الأعمال أول أسباب البشارة بحسن الجزاء في الآخرة للطائعين وأول مسائل الحساب للعاصين : ) إنّ الذيِنَ يَتْلُونَ كِتَابَ الله ِ وَأقَامُوا الصّلاة َ وَأنْفَقُوا مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا ً وَعَلانِيَة ً يَرْجُونَ تِجَارَة ً لَنْ تَبُورَ ([30] ، ) مَا سَاَكَكُمْ في سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مٍنَ المُصَليّنَ[31] ( .
وقررت السُنة بعد القرآن نفس المكانة العظيمة للصلاة ، فهي في دار العمل رأس الطاعات وأفضل أعمال الإسلام . فقد سئل رسول الله r أي الأعمال أفضل (أو أحب إلى الله ) فأجاب : ((الصلاة على وقتها))[32] . وهي في دار الجزاء فاتحة الحساب : (( إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيام من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح ونحج وإن فسدت خاب وخسر[33])) والضامن للفوز والمغفرة : ((خمس صلوات من أحس وضوءهن وصلاتهن لوقتهن وأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن كان له عهد علي الله أن يغفر له ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه[34])) .
وإذا كانت الصلاة في الإسلام أول العمل الصالح وأفضله فهي لذلك أبرز المظاهر والسمات للمسلمين العاملين تميزهم في واقع الحياة عن سائر الناس .
[1] ابراهيم آية 40
[2] الأنبياء 72-73
1 ابراهيم 37
2 مريم 54-55
[3] طه 14-67
[4] البقرة 83.
[5] يونس 87
[6] هو 87
[7] لقمان 17
[8] آل عمران 43
[9] مريم 30-31
[10] طه 11-14
[11] البخاري ومسلم
[12] العلق
[13] الشيخان
[14] المدثر 1- 4
[15] المزمل 1-10
[16] العلق 9-10
[17] صحيح مسلم
[18] ابن هشام
[19] الشيخان
[20] ابن هاشم
[21] النسائئ
[22] الإسراء 78-79
[23] هود 114
[24] العنكبوت 45.
[25] طه 132.
[26] الأحزاب
[27] الأنعام 92
[28] إبراهيم 31
[29] الحج 77-78
[30] فاطر 29
[31] المدثر 42-43
[32] الشيخان
[33] الترمذى
[34] أبو داود