الرحلة إلى الجحيم ..قراءة في يوميات غوانتنامو

اثنين, 2015/06/15 - 10:56
الدكتور عبد الله بيان

ليس من السهل في هذا العصر أن تُخرج دور النشر كتاباً إلى العالم مترجما، من أول يوم، إلى أكثر من عشرين لغة. و لكن قراءة يوميات اغوانتنامو لمحمدو ولد الصلاحي تجعلك تفهم هذا الاستثناء.

"قصة لا تصدق"، كما وصفها المحرر، عندما يصل فيها القارئ إلى فصول التعذيب و التحقيق في سجون الأردن و باغرام و اغوانتنامو، يسيطر عليه الكاتب لدرجة يصعب معها التوقف عن القراءة، حتى النهاية.

 

(2)

بدأت معاناة ولد الصلاحي الحقيقة عندما قدِم به المفوض دداهي ولد عبد الله إلى المطار، في ملف يبدو أنه تولى هو و ولد الطايع و اعلي ولد محمد فال إدارته، ليسلمه سنة 2001 في شهر رمضان و في يوم "عيد الاستقلال" إلى طائرة صغيرة تابعة للمخابرات الأردنية، بعد أن أفطر من صيام يومه الشاق بقليل. ليكون آخر عهده ببلاده ركعات صلاة مغرب على عجل صلاها على أرضية المطار و نظرة أخيرة إلى سماء وطنه، قبل أن يُكبل و يُدخل رأسه في كيس أسود، سواد قلوب من سلموه إلى العذاب بكل هذه الوقاحة.

 

(3)

لم يكن "صاحب السِّجل" في معتقل المخابرات الأردنية في عمَّان يعلم بتفاصيل أمر ولد الصلاحي، و عندما بدأ بتسجيل معلوماته عند دخوله السجن، طلب منه عنوانه في الإردن فرد عليه بأنه قادم من موريتانيا و أنها هي من سلمته، فلم يتمالك أن علق مستنكراً و منتقصاً من هذه الدولة التي تسلم مواطنيها إلى العذاب.

و مع أن دداهي ولد عبد الله أقنعه بأن التحقيق معه في الأردن سيكون لمدة يومين و أنه سيكون في بيته يوم السبت (حيث قام بتسليمه مساء الثلاثاء)، استمرت فترة السجن و التحقيق في الأردن ثمانية أشهر، كان صراخ المعتقلين فيها أثناء جلسات التعذيب في الطابق الأرضي تُسمع من الطابق الثالث كل ليلة، من منتصف الليل و حتى صلاة الفجر. و يتم فيها إدخاله قبو السجن كل أسبوعين ليُسمح للصليب الأحمر بزيارة سجناء يتم انتقاؤهم لهذا الغرض.

و مع كل ذلك، فعندما يُحدثك ولد الصلاحي عن التعذيب في سجن اگوانتنامو، تبدو الفترة التي قضاها في الأردن و كأنها جنات النعيم.

(4)

مرّ ولد الصلاحي خلال نكبته بسجون دول عديدة، السينغال و موريتانيا و الأردن و أفغانستان. جمع بين أنظمتها الخضوع و العمالة للولايات المتحدة، بحيث تشعر عندما تعلم بأن سائق السيارة التي اعتقلته في السينغال كان أمريكيا و أن المحققين الآمريكيين كانوا يصولون و يجولون في السجون الموريتانية و براحة تامة تجعل أحدهم يضربه على الوجه "داخل بلاده" دون أن يتمعر وجهه، بأنك أمام أنظمة كرتونية لم تعرف بعد شيئا اسمه السيادة و لا الاستقلال.

و مع ذلك كان الاستثناء السينغالي واضحاً، حيث لم تسلم هذه الدولة الرجل للولايات المتحدة و لم تعرضه للتعذيب، بل إنها عندما لم تجد ما يدينه أعلنت عن تسليمه لبلاده بعد عدة أيام من اعتقاله، ليتولى الأمريكيون تأجير طائرة فرنسية تنقله إلى موريتانيا؛ فقد تأكدوا أنه الآن سيصل إلى "أيد أمينة"، يعبثون بحياته عن طريقها كيف شاءوا.

(5)

لا يمكن لمن يتحدث عن قضية ولد الصلاحي إلا يتناول جانباً من معاناة أسرته. و يكفي للقارئ أن يعلم بأنه -فك الله أسره- أمضى حوالي سنتين متنقلاً بين سجون موريتانيا و الأردن و باغرام في أفغانستان و اگوانتنامو في كوبا و عائلته تظن أنه لازال في انواكشوط، حتى قرأ أخوه في آلمانيا في مجلة دير شبيغل خبر وجوده في سجن اگوانتنامو.

في حين كانت الحكومة الموريتانية طوال تلك المدة تقول لأمه -رحمها الله- بأنه في موريتانيا، و ظلت هي من جانبها ترسل إليه مستلزماته عن طريق جهاز الأمن، و كان همها -رحمها الله- خلال تلك الفترة هو طرق أي باب من أبواب الدولة يمكنه أن يوصلها إلى أخباره أو يسمح لها منه بلقاء؛ يبدو أنه لن يتم

(6)

كانت الفترة الممتدة ما بين 8 يوليو 2003 و 23 أغسطس 2003 فترة شهر و نصف من العذاب، تولت كبره وزارة الدفاع الأمريكية ممثلة في وزير الدفاع رامسفيلد و القائد العسكري السابق لسجن اگوانتنامو جفري ميلر، و مع تقارير دورية عن طرق التحقيق "طرق التعذيب" تُرفع إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش و مجلس الدفاع في الكونغرس.

فبعد ستة أشهر من التحقيق من طرف وزارة العدل الأمريكية عن طريق ال FBI و تأكدها من عدم وجود ما يدين ولد الصلاحي، تولت وزارة الدفاع الأمر بنفسها و شكلت من 3 إلى 4 فرق تتناوب على تعذيبه على مدار 24 ساعة.

و مع أن ولد الصلاحي مُنع من الصلاة لمدة سنة كاملة و من الصوم كذلك، حيث كان يتم إطعامه بالقوة، و تعرض لكثير من التعذيب النفسي و الجسدي، إلا أن هذه ال 45 يوماً تميزت بنوع من الضرب بالحديد على الرأس و الجسم و على أماكن الألم و بصنوف أخرى من التعذيب، تجعل الإنسان فيها يتمنى أن يشتد التعذيب عليه حتى يفقد الوعي، لأنه سيغيب في ذلك الوقت على الأقل عن هذا الألم، و ينسى هذا الظلم و القهر و الإذلال.

(7)

من أكثر اللحظات إيلاما جسدياً، حسب رأيي في هذه الرحلة التي بدأت جحيماً من أول ساعة، هو ذلك اليوم الذي ألقت بولد الصلاحي فيه شاحنة على شاطئ البحر، بعد أن امتلأ جسمه كدمات من طرف المعذبين الأمريكيين و تكسرت عدة إضلاع في صدره و سال فمه دماً، ليتلقفه زورق سريع يتولى جلسة التعذيب الموالية. ليفاجأ بأن المعذبيْن على متنه من بني جلدته تم استقدامهما لهذا الغرض، واحد مصري و آخر أردني، و يزداد العذاب الروحي على العذاب الجسدي.

و لا تسأل بعد ذلك عما أرياه من صنوف العذاب في جلسة استمرت حتى العاشرة ليلاً كاد يفقد بعدها عقله و قد أغمي عليه لمدة ثلاثة أيام. و لدرجة أن المعذب المصري لما استأذن بعد ذلك في تعذيبه منعه المعذبون الأمريكيون

(8)-الأخيرة

في الأخير يبقى نظام ولد الطايع المسؤول الأول عما تعرض له هذا المواطن و أسرته، و تشاركه الأنظمة اللاحقة في جزء من ذلك. فبدل أن تقوم الدولة بالتحقيق في هذا الملف، عمدت إلى ترقية المسؤولين عن الجريمة و الاحتفاظ بهم و التستر على فعلتهم.

و في حين أن بولندا قامت بتعويض مواطنين أجانب تم اعتقالهم على أرضها و تسليمهم إلى معتقل اگوانتنامو، و اعتذرت دول عديدة لآخرين و سعت في إطلاق سراح من سلمتهم لدى الإدارة الأمريكية عن طريق رسائل رسمية و ضغط على أعلى المستويات، ما تزال الدولة الوحيدة في العالم التي سلمت أحد مواطنيها طواعية إلى هذا السجن تمتنع عن محاسبة مرتكبي هذه الجريمة و عن الاعتذار لضحيتها و للشعب الموريتاني.