الروس قادمون: موسكو تقبض على اللحظة الاستراتيجية

ثلاثاء, 2016/02/02 - 13:45
محمد سعدن ولد الطالب

عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، بدا المسرح العالمي ممهدا للاعب واحد هو الولايات المتحدة، التي شكلت ثنائية الحرب الباردة عائقا أمام طموحاتها ومشاريعها الإمبراطورية، ولقد تجلى التفرد الأمريكي واضحا خاصة في الشرق الأوسط، حيث عمد الأمريكيون إلى تبني سياسة تدخلية استباقية، غذتها المصالح الاقتصادية والطموح الاستراتيجي الهادف إلى بسط الهيمنة الأمريكية على منابع النفط بالإضافة إلى الرغبة في فرض إرادة أمريكية واضحة بوصلتها الحقيقية مصالح إسرائيل باعتبارها الربيبة والبنت المدللة لواشنطن،  ولقد جاء احتلال العراق وزرع بذور الفوضى داخله ليشكل ذروة الصلف الأمريكي المتدثر بعباءة زائفة لشرعية دولية صنعت على أعين الأمريكيين يستخدمونها كيفما شاؤوا ووقت ما شاؤو..

ولقد جائت ثورات “الربيع العربي” وسقوط النظام الليبي الحليف لموسكو وترنح النظام السوري والمأزق الذي يعيشه النظام المصري لتوقظ موسكو من غفوتها، حيث بدأ الروس يعيدون حساباتهم الاستراتيجية مستفيدين من زخم سياسي خلقته قيادة فلاديمير بوتين ذات النفس القيصري، ومستفيدين أيضا من وفرة اقتصادية هائلة نتجت عن ارتفاع أسعار الغاز خلال السنوات الماضية، وهكذا رسم الروس خطة عودة متدرجة للتأثير على المسرح العالمي وخاصة الشرق الأوسط، بوصفه المنطقة الأكثر أهمية، مستغلين سياسة الانسحاب وعدم التدخل التي اعتمدها الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وتجلت درجتها القصوى في موقفه من الثورة السورية حيث ظل التردد و”تقديم رجل وتأخير أخرى” هو الطابع الأبرز لتلك السياسة، مما مهد الطريق أمام الروس لتدخل بدأ “لفظيا” ليتطور إلى تدخل خشن أعاد لخبطة الأوراق وأعاق التدخلات والمشاريع  وفرض مقاربات جديدة للملف السوري..

ولعله من نافلة القول إن روسيا لا تزال قوة عالمية عظمي بالمعايير العسكرية، وبمعيار الموارد الاقتصادية الهائلة، والقدرات الكامنة، ومنذ وصول فلاديمير بوتين إلى الرئاسة  عام 2000،  عمد إلى اتخاذ خطوات جسورة للعودة إلى مسرح السياسة العالمية، بعد سنوات من انهيار الاتحاد السوفيتي، وظهور بوادر التجزئة، وانفصال جمهوريات ومناطق عن الدولة الأم، ولقد جاء اختيار المجلات الدولية الرصينة لبوتين بوصفه شخصية العام خلال سنوات متتالية، ليشكل اعترافا بدور القيادة الروسية في استعادة المكانة العالمية لروسيا..

إننا نشهد في الفترة الحالية آفاق عصر روسي تبدو فيه موسكو مصممة على ملأ فراغ أمريكي بدأ يتسع وبدأت ملامحه تظهر على منطقة عربية غابت فيها الدول القائدة، ولعل من مصلحتنا كعرب أن  نجيد اقتناص اللحظة ونسعى لتوسيع دائرة المشترك مع الروس مع البحث عن نقاط الاختلاف والسعي لتقليلها خاصة وأننا نعيش مرحلة تاريخية سيماها الاضطرابات والقلاقل..

ولعلنا لاحظنا في الأشهر الأخيرة، رغم الاختلاف الكبير بين الروس وبين أغلب العرب في الرؤية الخاصة بالملف السوري، أن ثمة سعيا عربيا محموما لطرق باب الكرملين ومحاولة التواصل مع قادته، وفي هذا الإطار جاءت زيارة أمير قطر الأخيرة لموسكو، والتي حرص الطرفان خلالها على إظهار الثقة والتفاهم المشترك، وقبلها زيارتين متتاليين خلال فترة محدودة للعاهل الأردني، وكذك للشيخ محمد بن زايد الذي تسعى دولته إلى الإبحار شرقا عبر تمتين العلاقات مع موسكو وبكين ونيودلهي، كما أن زيارة الأمير محمد بن سلمان لروسيا عكست إصرارا سعوديا قويا على عدم ترك نقاط الاختلاف تعصف بعلاقاتها مع العملاق الروسي..

إنه مما لا جدال فيه أن الولايات المتحدة ستظل قوة عالمية من الصعب تجاوزها أو تحديها، وهو أمر أبرزته كتابات عديدة لمفكرين كبار، لعل أشهرها الكتاب الموسوعي “آفاق العصر الأمريكي” الذي بسط فيه المفكر الإماراتي الدكتور جمال سند السويدي رؤيته المبنية على الأرقام والحقائق العلمية بشأن التفوق الأمريكي، ورغم  وجاهة النظرية الخاصة بالتفوق الأمريكي، إلا أنها لا تعني إغفال أننا أمام لحظة تاريخية يتحفز فيها الدب الروسي لفرد عضلاته وبسط نفوذه ومزاحمة الأمريكيين كتفا بكتف، في عالم يمور بالتغيرات وتتبدل فيه الأحوال بسرعة جنونية

 *كاتب وإعلامي موريتاني