علة انفصام المرافق العمومية في موريتانيا

جمعة, 2016/01/15 - 09:39
المحامي/ محمد سيدي عبد الرحمن ابراهيم

فحص قانوني لأجهزة الدولة الموريتانية

(يناير 2016).

امن الوارد أن يقف الشخص دوريا للتفكير في صحته ومدى سلامة تطور وحركة الكيان الإجتماعي الذي ينتمي إليه وأن يجري التحاليل التي تخوله الإطمئنان على مختلف أعضائه وقدرتها على القيام بوظائفها على الوجه الأكمل ومن هذا المنطلق، واستئناسا بأساليب الكشوف الطبية ودوريتها المنتهجة والنافعة، تبينت - مع مطلع سنة 2016 - وجود انفصام غير صحي في بعض مرافق الدولة أتناول تشخيصه وعلاجه في هذا المقال.

- I -

يظهر فحص أجهزة حكم الدولة الموريتانية انتشار مرافق عمومية طارئة أحدثت أغلبها إفرازات غير منتظمة للسلطة التنفيذية (مراسيم) وتسببت الأعضاء الحديثة في ضمور المرافق المقابلة الأصيلة (الأجهزة الدستورية وأجهزة الدولة المنشأة بقانون) كما نتج عن ازدواجية الأعضاء اختلال توازن السوائل (الموارد) مما أضعف قدرة الأجهزة على الإستجابة لمتطلبات المنتفعين بالخدمة العمومية الذين كثيرا ما وقفوا حائرين في الجهة المعنية بشؤونهم.. ناهيك عما يسببه تبعثر الأجهزة من تبديد للثروة المادية والبشرية الوطنية ولربما أسهمت التبعية وسهولة انقياد السلطة التشريعية وضعف أداء سلطات الرقابة القضائية في اعتلال الوضع القانوني للدولة الموريتانية وفي إضعاف مناعة مؤسساتها.

فلقد عمدت السلطات التنفيذية الموريتانية، إبان العقد الأخير، إلى إحداث مرافق موازية لبعض الهيئات الدستورية والقانونية القائمة وأصبح بعض الأجهزة المستحدثة (بوسائل قانونية معيبة في الغالب) يستقطب الإهتمام على حساب المرافق الأصيلة التي أضحت على الهامش مما يثير إشكالات تتعلق بتنازع الإختصاص في ميادين التقاطع:

1. ففي مجال رقابة الأموال العامة أنشئت المفتشية العامة للدولة بالموازاة مع محكمة الحسابات.

2. وفي مجال الهيئات الإستشارية الرئاسية أنشئ المجلس الأعلى للفتوى والمظالم على نمط المجلس الإسلامي الأعلى وأنيط به أن يلعب دور وسيط الجمهورية.

3. وفي مجال الأمن أحدث التكتل العام لأمن الطرق بالموازاة مع الشرطة الوطنية وأعلن قيام خفر السواحل بموازاة البحرية الوطنية.

4. أما في مجال حقوق الإنسان وبينما تتحمل الدولة الأعباء المالية للجنة الوطنية لحقوق الإنسان قررت، دون لزوم، إنشاء آلية موازية، بذات الصفات، للوقاية من التعذيب كما أنشأت وكالة التضامن لمحاربة مخلفات الرق والدمج ولمكافحة الفقر على نفس خط المفوضية المكلفة بحقوق الإنسان ومحاربة الفقر والدمج.

5. وفي مجال محاربة الفساد أنشئت لجنة الشفافية في الصناعات الإستخراجية لتتعايش مع لجنة الشفافية المالية في الحياة العامة دون أن يكون لأي منهما إسهام ذو بال .

6. ولم يسلم البحث العلمي والتعليم العالي من طفرة مراسيم الإنشاء فقد استحدثت كيانات عسكرية لتزاحم مؤسسات علمية عتيقة كما هو حال المعهد العالي لعلوم البحار (ISSM) التابع للأكاديمية البحرية (العسكرية) المنشئ سنة 2014 والذي يزاحم المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد (IMROP) الذي تعود نشأته لسنة 1950 (أي ما قبل قيام الدولة الموريتانية المستقلة).

ومع عدم الإحاطة بالمصالح المزدوجة في الدولة إلا أنني تبينت تعايشا منكرا لثمانية أزواج مثلية أوردها في الجدول التالي الذي أذكر في خانته الأولى الأعضاء الأصيلة وفي الخانة الثانية الهيئات الطارئة التي أنشئت لتوازي الأولى أو تحل محلها بينما أفرد الخانة الثالثة لملاحظات ذات صلة:

الأجهزة الأصيلة

الأجهزة الطارئة

ملاحظة

محكمة الحسابات

أنشئت بناء على المادة 68 من الدستور (الصادر 1991) ونظمها القانون رقم: 19-93 بتاريخ 26 يناير 1993.

 

المفتشية العامة للدولة

أنشئت بالمرسوم 122-2005 الصادر عن المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية.

من الأجدر بالسلطات تفعيل محكمة الحسابات والعمل على تخفيف بعض إجراءاتها وتنظيم مساطر استعجالية تمكنها من التصرف السريع بدل إنشاء المفتشية العامة للدولة التي تعيقها التبعية للمصالح الحكومية عن القيام بمهمة تتطلب الإستقلال.

المجلس الإسلامي الأعلى

أنشئ بناء على المادة 94 من الدستور.

المجلس الأعلى للفتوى والمظالم

أنشئ بموجب المرسوم 134/2012 بتاريخ 24 مايو 2012.

من الأجدر تفعيل المجلس الإسلامي بدل إنشاء مجلس الفتوى والمظالم خاصة وأن الكثيرين لا يتبينون الفرق بين المجلسين التابعين لرئاسة الجمهورية.

الشرطة الوطنية

لم يتيسر لي الحصول بدقة على سند إنشائها إلا أن الأكيد أنها أنشئت بعيد الإستقلال وخلال العقد الأول الذي تلاه.

التكتل العام لأمن الطرق

اقترح وزيرا الداخلية واللامركزية والتجهيز والنقل إنشاء السلك الجديد أثناء اجتماع لمجلس الوزراء عقد بتاريخ 22 أكتوبر 2009.

 

نظرا لكون جهاز الشرطة معروفا على الصعيد الدولي بعكس التكتل العام لأمن الطرق الذي لا تتجلى ماهيته من تسميته (مما جعل العوام يطلقون عليه اسم قائده الأول) واعتبارا لتاريخ الشرطة الوطنية فمن غير الوارد أن يحل ت.ع.أ.ط محل الشرطة ولقد كان من الأجدر العمل على إصلاح قطاع الشرطة بتخليصه من العناصر الفاسدة وضخ دماء جديدة في صفوفه.

البحرية الوطنية

من قطاعات الجيش الوطني القديمة التي أنشئت بعيد قيام الدولة.

خفر السواحل

أنشئ بالقانون رقم 041-2013 الصادر بتاريخ 12 نوفمبر 2013.

بالنظر لتاريخ البحرية الوطنية فهي قادرة على القيام بالمهام العسكرية وضبط المجال البحري للدولة وقد كان من الأجدى إحداث هيئة إدارية أو قضائية مدنية للتعامل مع مساطر المخالفات البحرية بحياد لأن التبعية المباشرة للسلطة التنفيذية تزعج المستثمرين كما أن الخلط بين الوظائف المدنية والعسكرية ضار بالدولة ولذلك ينصح بتجنبه.

اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان

أنشئت بموجب الأمر القانوني 2006-015 بتاريخ 12 يوليو 2006

الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب

أحدثها القانون رقم: 034-2015

كان من الممكن تعديل النصوص المنظمة للجنة الوطنية لحقوق الإنسان لتتكفل بالآلية الوطنية للوقاية من التعذيب كما بينت في مقال: "لماذا يتم إنشاء لجنة ثانية لحقوق الإنسان".

المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد

أنشئ مخبر الصيد، في نواذيبو، سنة 1950 قبل أن يتم تحويله إلى مركز فمعهد.

المعهد العالي لعلوم البحار التابع للأكاديمية البحرية (العسكرية)

28 أغشت 2014

نظرا لأهمية التراكم في البحث والتكوين العالي ولطبيعته المدنية البحتة فمن المعيب إلحاقه بالمؤسسة العسكرية خاصة إذا كان ذلك على حساب مؤسسة ذات مصداقية دولية وتجربة. وإن لزم ذلك فلا ينبغي أن يتم على حساب المعهد العتيق الذي يزاحمه المعهد الوليد بمقره في نواذيبو.

لجنة الشفافية المالية في الحياة العمومية

أنشئت بالقانون رقم 054-2007 بتاريخ 18 شتنبر 2007

اللجنة الوطنية للشفافية في مجال الصناعات الإستخراجية

من الممكن إنشاء لجنة وطنية مستقلة للشفافية ذات مصداقية ترفع من مكانة الدولة وتتلقي التصريحات المتعلقة بممتلكات كبار المسؤولين وتتضمن قسما خاصة بتحري الشفافية في الصناعات الإستخراجية بما يكفل وفاء الدولة بالتزاماتها الدولية ذات الصلة.

المفوضية المكلفة بحقوق الإنسان ومحاربة الفقر والدمج

أنشئت سنة 1998

وكالة التضامن لمحاربة مخلفات الرق والدمج ولمكافحة الفقر

أنشئت بالمرسوم 048-2013 بتاريخ 28 مارس 2013

لا ضرورة لتعايش قطاعين يمكن لأحدهما أن يحل محل الآخر ويؤدي مهمته.

- II -

إن إنشاء الدولة لمرافق متوازية تتقاطع كليا أو جزئيا في طبيعتها أو اختصاصاتها يحمل مساوئ عديدة يمكن إجمالها في النقاط التالية:

1. يؤدي لتبديد موارد الدولة بإنفاقها دون طائل في صرف رواتب ومزايا عديد الرؤساء المدنيين والقادة العسكريين وفي تعهد وتجهيز المنشآت وما التبديد (Dislocation) في اللغة إلا التفريق.

2. يؤدي إلى افتقار المرفقين المتوازيين للخبرات البشرية التي يستقطبها أحدهما بدل الدمج الذي يمكن من تسخير الخبرات المجتمعة لخدمة المصلحة العمومية.

3. يربك المواطن الذي يجد نفسه حائرا بين عدة مرافق مختصة يسهل على متقلديها تدافعه: وقد تابعنا في الأسابيع الأخيرة - على شاشة إحدى القنوات التلفزيونية - شكوى مواطن علم بهجوم قطاع الطرق على دكانه بسوق العاصمة فلجأ لتشكيلات مختلفة من القوة العمومية، طالبا الإغاثة، إلا أن أغلبها اعتذر متذرعا بأنه غير معني بالتدخل الأمني في تلك المنطقة !!

وبالتزامن مع الحملة الوطنية الواردة للقضاء على ازدواجية الرواتب وفي خضم الأزمة الإقتصادية وشح الظروف المعيشية لأغلب المواطنين الموريتانيين وخطبا للجدوائية يتعين اعتماد  قواعد الحكامة الرشيدة التي توجب تسريح الضرائر في المرافق العامة فالإزدواجية الوظيفية منافية للمصلحة وإذا كانت المنافسة مفيدة في الميدان التجاري فإنها تتعارض جذريا مع أهداف المرافق العمومية.

لمحامي/ محمد سيدي عبد الرحمن ابراهيم

mohsiab66@gmail.com