سباحة في بحار الحزن

ثلاثاء, 2016/01/05 - 16:10
بقلم الكاتب والمحامي الموريتاني محمد ولد أمين

قراءة لمخطوطات عمر ابن سعيد و محمدو ولد صلاحي: لا شيء يعلو في سماء الأدب على الألم الأعظم ، ففي المعاناة يوجد دوما سر الخلود. ومن التعاسة تتوالد دائما الأساطير. هذا ما يلمسه كل من عاين آثار الحاج عمر ابن سعيد الفوتي دفين بلادن قرب فاييت فيل في شمال كارولينا، ويتجرعه كل من نظر في مذكرات محمد ولد صلاحي نزيل سجن غوانتانامو البشع في كوبا.

 

بالأمس وباليوم تتحدى الحقيقة الصرفة زخارف اللغة وتتجاوز بقوتها وسطوتها جبروت أعتى امبراطورية في تاريخ البشرية . لقد سطرا في بساطة وفورية أجمل ما جادت به قريحة آدمي، ولم يكترثا بالنحو وقواعده ولا بالبلاغة وحيلها.. توجها مباشرة للانسان وتحدثا اليه بصراحة وطهارة وصدق عما وقع دون تطريز أوتكلف. 

 

لذلك فأنني أطالب بادراجهما في طليعة عمالقة الأدب الموريتاني الذين يتوجب تدريس نتاجهم في المدارس والجامعات. فعندهما نجد اجمل انواع البوح وارفع تعابير الانسانية حين تواجه الظلم والعنصرية فتسمو بهما روح الانسان وتنتصر على عنجهية الشر بقوة الفكر حين ينسكب مداده على الورق. يشترك الكاتبان في نوعية المحنة وفي كثافة الاحزان وفي وحدة الانتماء لوطن ممحون ومنتهك داخليا، بسبب الطغيان والاستبداد ، ومستباح خارجيا بسبب هوان قياداته وخذلانها لمواطنيها في مواجهة المعتدي.

 

لا احد في عالم اليوم يستطيع ان يكابر ويرفض المقارنة بين همجية الأمس وبربرية اليوم ، فكم متطابقة هي الوقائع ، صارخة هي الحجج وصلبة هي الأدلة. لقد سقطت كل النظريات الجميلة حول رقي الانسانية...تهاوت جميعها امام اول اختبار جدي ! سقطت كل المواثيق الأممية.. وكل الاعراف النبيلة.. وكل المسلكيات المتحضرة... وتحول سادن الفلسفات التنويرية ، الذي يحكم الشاطئ الموجود قبالتنا، في اول لحظة غضب الى نخاس متحجر الذهنية وعديم الرأفة. هل تقمصته أرواح أجداده..

 

وحلت بنا مجددا لعنة التاريخ الذي يعيد نفسه ؟ أرواح الأجداد لم تتقمص رئيس امريكا وحده حيث - وفي لمح البصر- تقلص رئيس الجمهورية عندنا الى شيخ قبيلة افريقية همجية فها هو على حاله دوما: متحشد تمام التحشد، وجاهز تمام الجاهزية، لارضاء النخاس الأبيض مهما طلب بغية المحافظة على أفياء خفارة سفائن الرقيق.

 

يعود بنا الزمان -في غفلة منا- الى تلك الأيام الكالحة التي كنا نباع فيها ونشترى.. أيام كنا نشحن في سفن مكتظة كعلب السردين وهي تعبربنا ذهابا دون اياب بحر الظلم ومحيط الظلمات.  هذا ما يخلص اليه من يقرأ يوميات غوانتانامو للأسير الموريتاني محمد ولد صلاحي...وهذا هو عنصر الفرادة الأكبر في أدبه الجميل والحزين... والمنتهك ! مأساة محمد صلاحي تستبطن وتستتبع وتتماهى مع مأساة مواطننا الشهير الحاج عمر ابن سعيد الفوتي- رحمه الله- مع فارق بسيط يتعلق بعنصر غامض ومقدس هوالزمن...!

 

عمر ابن سعيد الحاج عمر ابن سعيد الفوتي او العم عمارو او "أمير المور" صاحب أول مخطوط عربي في امريكا ، وهو مخطوط صغير حذر وخجول، كتبه صاحبه سنة 1830 لتعريف بعض المحافل الثقافية بقصته الأليمة التي أدهشت امريكا والعالم. لقد كان لذلك المخطوط البسيط (14 صفحة) وزهيد اللغة.. الزاخر بالمعاني ،والذي كتبه صاحبنا بعد عزلة طويلة في ربوة بلادوين في كارولينا الشمالية، شأن عظيم في تعريف العالم بمصائب العبودية وفظائع الاتجار بالبشر.

 

لقد اتاحت الأقدار لهذا الأمير الأسير، بعد طول معاناة، فرصة نادرة في حشد الدعم الانساني المالي والسياسي لتأسيس أول دولة حديثة في افريقيا وهي دولة ليبيريا: أي دولة الحرية ! يعود أصل هذا الكاتب لعائلة فولانية عريقة ومتعلمة تتحدث بالبولارية كلغة أم وبالعربية كلغة دين وتعامل.

 

مازالت فروع هذه العائلة تنتشر على الاراضي الموريتانية وتمارس حياة بدوية نقية في مسار محدد "بين البحرين" أي بين نهر السنغال ونهر كراكورو ومن فروعها الشهيرة عائلة صمبا سعيد الموجودة في نواحي الغبرة في مقاطعة باركيول وعدد آخر من العائلات الصغيرة في كوركول خصوصا في مركز لكصيبة ونواحي امبود وفي الحافة الغربية الشمالية من ولاية كيديماغا الموريتانية.

 

تشترك كل هذه العائلات في الانتساب لجد مشترك يدعى "كيبيه" ولقد كتب عمر ابن سعيد بخطه الجميل والمقروء انه ينتمي لقرية كيبيه الموجودة بين البحرين وساهم ذلك في اشاعة الغموض حوله حيث ظن كثيرون ان كيبيه هذا اسم لمكان محدد وذرع عشرات الباحثين الأمريكان والاوروبيين جنوب موريتانيا والسنغال وغامبيا بحثا عن قرية بهذا الاسم ولما لم يجدوها راح كل واحد منهم يتأول الأمر على مزاجه الخاص فجعلوا مقصد الكاتب ببين البحرين ما بين نهر السنغال ونهر النيجر حينا.. وحينا جعلوه المنطقة الشاسعة الموجودة بين نهر السنغال ونهر غامبيا بل طفق مؤرخوا جامعات السنغال يتأولون الأمر بشكل مغلوط وفج ليحصروا مكان البحث بين نهر السنغال وأحد فروعه الداخلة في الحوزة الترابية السنغالية !

 

في حقيقة الأمر لا يخفى على من له ذرة معرفة بحياة الفلان أو الفلاتة انهم بدو رحل ينصبون اكواخهم في اماكن عديدة من مساراتهم المشهودة وتشكل كل عائلة منهم قرية متنقلة وبطبيعة الحال حين يصل عدد القرية المتنقلة الى سقف معين تنبثق قرية اخرى ومع الزمن يختفي اسم القرية الأصلية وتحل محله اسماء حديثة بعدد البطون الجديدة وهذا سبب اختفاء قرية كيبيه من الوجود وهي القرية-العائلة التي ينتمي اليها صاحب المخطوط العجيب.

 

من المعروف عند أهل التاريخ أن العقد الأخير من القرن الثامن عشر تميز بتفاقم السلطة الاستبدادية للمامي "عبد القادر كان" الذي أعلن نفسه أميرا للمؤمنين وجمع حوله جيشا جرارا من التورودو أي من الباحثين عن وسيلة ما للصعود الاجتماعي -باسم الدين غالبا- وكان جل رجال التورودو حانقون ولا يتوانون عن تصفية حساباتهم مع نبلاء الفوتا والممالك المجاورة بقسوة وضراوة... تماما كما هو حال الحركات المتطرفة في زماننا هذا.

 

لقد أدى سلوك التورودو الى مواجهات ضارية بين رجال المامي عبد القادر كان وملوك الولوف وامراء الترارزة والبراكنة وادوعيش فضلا عن الحرب الضروس بين منظمة المامي "الارهابية" وعائلات الفلان التي ظلت تعتبر المامي ورجاله مجرد عصبة حاقدة من المسحوقين والآبقين وممن تتفاحش لديهم الكراهية لمجد الفولان التليد خصوصا ان الفلان سيطروا وعلى قرون طويلة على الحكم والعلم والدعوة. 

 

كانت السلطات الفرنسية بمدينة سان لويس تبحث عن وسيلة دبلوماسية وعسكرية لفرض سيطرتها ونفوذها على وادي النهر بحجة ضمان حرية التجارة وهذا ما تم لها بعد حملة بلانشو سنة 1804 على النهر وهي الحملة العسكرية التي جعلت المامي عبد القادر يذعن لسلطة فرنسا خصوصا اثر الوساطة الشهيرة التي قام بها أمير البراكنة سيدي علي ولد آقريشي... ويبدو جليا من تفاهمات 1804 ميلاد تحالف جديد بين البراكنة والتورودو وفرنسا وقد جعل هذا التحالف المامي المهزوم في كايور وفي كيهيدي يهادن فرنسا ويناور معها حتى يتسنى له التخلص من بعض من نزغ الشيطان بينهم وبينه خلال حروبه واجتهاداته العنيفة..

 

ومن هؤلاء المدعو عمارو صايدو كيبيه وهو صاحبنا الذي اعتقل بحجة الحرابة والتمرد على السلطة القائمة في احدى حملات التأديب التي تفرغ لها المامي عبد القادر. قد يعترض معترض قائلا ان عمارو صايدو ليس عمر ابن سعيد لكن وثائق التاريخ تثبت بشكل لا يرقى اليه شك أن نخب المنطقة جميعها كانت تتأفف من الطريقة التي نكتب بها اسمائنا في هذه الأيام ! مثلا لا توجد وثيقة واحدة لعربي اوبربري او تكروري او فلاني أو سونينكي توجد فيها كلمة فلان ولد فلان ولا توجد مراسلة افريقية واحدة يدعى فيها شخص باسم دارج مثل ابراهيما او داوودا أو محمدن أو محمذن ففي كل هذه الحالات يتقصد الكاتب التقرب من الأصل الفصيح فتتحول محمذن الى محمد وأحمدو الى احمد كما تجب الاشارة والتنويه الى ان النخب المتعلمة ساعتها ظلت تتجنب الاطالة والحشوفي التسميات المركبة والالقاب المعقدة فشخص يدعى سيدي مولود كان يوقع رسائله بمولود وشخص يدعى سيدي المختار كان يوقع مراسلاته بمختار تاركا لمحبيه ومخاطبيه الحرية في تكنيته وتعظيمه ان هم أرادوا.

 

لكن سيطرة فرنسا على الحالة المدنية أدت الى بروز التسميات الغريبة والتركيبات الممجوجة حيث تولى الحالة المدنية أغراب يكتبون ما يسمعون دون تفحص او تدقيق وهذا هو سبب اعتراض البعض على تطابق التسمية بين عمارو صايدو من قرية كيبيه وعمر ابن سعيد الفوتي ! تؤكد الروايات الشفاهية التي ظل يتناقلها رجال "القاولو" على ان المامي عبد القادرحكم على الفقيه الفلاني بالنفي من الأرض بتهمة الحرابة متجنبا قتله او تقطيعه على خلاف، وذلك مراعاة لمقامه الاجتماعي، وهكذا تم بيعه نخاسة لأحد سماسرة الرقيق في وادي النهر وحشر مع تعساء آخرين في اقبية سان لويس في انتظار شحنه للعالم الجديد.

 

عثر البروفيسور الموريتاني الألمعي اكنو كان أستاذ التاريخ في جامعة نواكشوط على مراسلات هامة بين الوالي الفرنسي بسان لويس ووزير البحر الفرنسي بباريس يلتمس فيها الوالي الفرنسي المسيو بلانشو من باريس الاذن بعدم ترحيل من اسماه "بمرابط السنغال" الى العالم الجديد لكن حكومة باريس قررت احترام اتفاقيات التجارة الحرة وروح التفاهم مع سادة حوض النهر وأمرت واليها بترحيل مرابط السنغال على متن آخر سفينة فرنسية تحمل شحنة عبيد متوجهة لميناء تشارلز ستون في ولاية كارولينا الجنوبية بالولايات المتحدة الامريكية برسم فبراير 1806 إذن نحن هنا أمام مؤامرة دولية كبيرة ضد مثقف أعزل ! المامي عبد القادر سلطان النسخة الاولى من عصابة "بوكو حرام" وبدعم من حلفاءه العرب وبمباركة فرنسية صادر حرية رجل اعزل يختلف معه في الرأي...

 

وتغافلت فرنسا الثورة العظيمة، وفرنسا ميثاق حقوق الانسان والمواطن، عن محنته وأمر وزير من حكومتها بشحنه على وجه السرعة في سفينة رقيق لبيعه على ارض جورج واشنطون أرض الآباء المؤسسين الذين كانوا أول من دبج في وثيقة قانونية قائمة الحقوق الانسانية !  بعد شهرين من الابحار نزل عمر ابن سعيد على رصيف الحزن وابتاعه في أول مساره رجل ابيض عجوز وعامله بلطف.. لكن ماهي الا شهور يسيرة ويؤول ملكه لوحش آدمي سيسومه خسف العذاب فيتدبر سبل الهروب ويتملص من سيده الجديد ويطلق ساقيه للريح ويتمكن من اجتياز الحدود الفاصلة بين كارولينا الجنوبية وكارولينا الشمالية. ه

 

ناك قرب فاييت فيل حيث تسلل ليلا من الاحراش القريبة التي كان يلوذ بها في النهارباغته شبان بيض وهو في باحة كنيسة يصلى صلاة المسلمين .نعم لم يجد صاحبنا اجمل من باحة كنسية لتأدية الصلاة المحمدية ! سلمه الشبان البيض للشرطة وأودع السجن لكن احد الشبان قرأ رموزا ما في استغاثات العبد الهارب.. فأثارت فضوله فتحدث عنها بعد أيام لعمه المثقف والمهتم بتاريخ الأديان وهومحافظ كارولينا الشمالية لاحقا السير جيمس أوين.

 

تملك الفضول جيمس أوين فهرع الى الزنزانة وحاول مخاطبة السجين فزادت دهشته حين راى كلمات من لغة غريبة على جدران السجن ومربعات ورسوم عجيبة لم يستطع فهم مغازيها وهو الرجل العارف بضروب عديدة من الغوامض والشوارد. استغرب اوين قسمات هذا العبد الهارب ومن لون بشرته البني المشرب بحمرة براقة وحين صافحه اكتشف ان السجين يعرف التواصل بيده ايما معرفة وهذا حال جل أقطاب التصوف الاسلامي عبر العصور.

 

من الرموز التي لفتت انتباه المحافظ أوين شعارات النجوم الخماسية والميم الأبتر وغيرها مما رصص عمر في جداول متسقة... ولا يخفي على أي مؤرخ جدي ان الحكم المصرية القديمة والعبرانيات المستورة تسللت الى التراثين الاسلامي والمسيحي وجلها تم تناقله شفويا في طقوس متشابهة احيانا ومتناقضة احيانا أخرى ولعل هذا هو سبب انتشار الطريقة الأكبرية في اوروبا وامريكا وما نلاحظه هنا وهناك من محاكاة بعض النصارى والغنوصيين للشاذلية الحطابية التي ربما كان ينتمي اليها الفولاني الأسير.

 

حزم جيمس أوين امره وقرر تعميق بحثه واشباع فضوله.. فاشترى العبد الهارب من سيده بالف دولارنقدا وعدا. واسكنه في كوخ نظيف في خلفية قصره المنيف. تعاملت عائلة أوين مع عمر ابن سعيد بلطف وحنو.. وعاملته كأمير أسير وقد بهر كل من التقى به حيث حباه الله بكثير من الرقة والكياسة وهذا ما حوله لاسطورة حية فتعرف على كبراء الساسة والمشاهير ليس في الجنوب الامريكي وحسب بل في بوسطن ونيويورك.. وقد تم نقاش مسألته في الكونغرس الامريكي كدليل بشري موجود وملموس وناطق على حضارية الانسان الافريقي وهي الحالة الوجودية التي افرزت في محاولة تكفير وتوبة -كما سبق وأشرنا- ميلاد دولة ليبيريا. تقدمت السن بعمر ابن سعيد ورفض دوما فكرة العودة لموطنه الاصلي حيث قتلت الحروب جل افراد عائلته المقربين.. وحيث تعرض للخيانة والذل.

 

رفض أيضا اللحاق بليبيريا وظل في حديقة أهل أوين الى ان وافاه الاجل المحتوم سنة 1864عن عمر يناهز التسعين حولا وقد تجنب خلال منفاه الامريكي الزواج والانجاب قائلا في سخرية مريرة انه لا يستطيع التسبب في زيادة عدد العبيد في امريكا. من راجع مخطوط عمر ابن سعيد قد يميل الى الاعتقاد ان الرجل تحول الى النصرانية خصوصا ان نسخة من الانجيل، مطبوعة بالعربية، كانت بحوزته لكن البحث القيم الذي اجراه الدكتور علاء الرايس من جامعة يال الفخيمة نفى تلك التهمة عنه بشكل جلي حيث توصلت خلاصة ذلك البحث الشائق الى حقيقة جميلة ورائعة مفادها ان الاسير تعلم المسيحية وسايرها لفهم المجتمع الذي يحيط به ولدفع الناس الى التعامل معه برأفة وانسانية... لا اقل ولا اكثر.

 

لقد نجح في ذلك المسعى حيث تمكن عبر مناورة ذكية من وضع امريكا بجانبه فتحول في حياته وبعد وفاته الى واحدة من تلك القصص الانسانية التي ما زالت تلهم الملايين من الناس روائع التسامح وألطاف المحبة. . لن نسمع بالمامي عبد القادر بعد 1807 حيث توفي بعد ان نال عقابه الدنيوي من عزل واذلال ولم يقلده احد من عقبه وحتى اليوم.. وانحسر تاريخه الى اهازيج تثير من الشفقة اكثر مما تثير من الاعجاب. في الشهور التي أعقبت ترحيل "مرابط السنغال" سيموت الوالي بلانشو وستطرد فرنسا من المنطقة وستحل محلها بريطانيا العظمى ولن يرفرف العلم الفرنسي فوق قصر حاكم سان لويس إلا في 1816 لكن الانتقام الالهي سيمنع حتى الوالي الفرنسي الجديد من الوصول بهدوء فستتحطم سفينته على رمال حوض آرغين وسيموت جل جنوده ومنهم من اقتات من لحوم موتى السفينة الملعونة.

 

هل ذلك من "تزبوت" عمر ابن سعيد ؟ العقل العلمي يرفض ذلك لكن الأمر وجداني.. فليمتحن كل واحد منا المسألة بطريقته !

 

محمد ولد صلاحي

كتب محمد صلاحي في الصفحة 325 من مؤلفه الحزين : "..غالبا ما كنت أقارن نفسي بالعبيد.لقد أخذ العبيد بالقوة من افريقيا،وكذلك أنا. بيع العبيد مرتين في الطريق الى وجهتهم الأخيرة وكذلك أنا. سلم أمر العبيد لشخص لم يختاروه وكذلك أنا ..." لا يوجد في تاريخ العبودية الحافل من تعرض لنفس التعذيب الذي تعرض له محمد ولد صلاحي فقد ضرب بقسوة، ووضع في الثلاجات، وفي اقفاص القرود وتعرض لاصناف من التحرش الجنسي المدمر والامتهان النفسي الممنهج لم يكتب التاريخ لها مثيلا عبر العصور.... لكنه هزم جيوش المحققين وجحافل الجلادين واجهزة كشف الكذب لسبب وحيد وواحد هو قوة الحقيقة !

 

لقد سجل كل شيء بدقة، وجمع قصته بين دفتي كتاب مالح كالدمع .. حامض كالكبريت... وليس هناك من يستطيع مبارزته في جمال الوصف أوفي جلال اللغة فقمة الجمال تركن دوما الى البساطة والصدق لا الى الحشو والاسفاف.. وهذا لعمري ما رفع عمله الى مستويات جمالية تناغي كبريات الملاحم التي سطرها الانسان عبر الزمن. يوميات ولد صلاحي أيضا تحفة غير مسبوقة في التحليل النفسي لمن يروم الغوص في سيكولوجيا الألم ..وأروع ما فيها هو عجز طواغيت العالم مجتمعين ومتحدين عن انتزاع تلك الانسانية الرائعة التي تجعل المرء يتشبث بالقيم الكبرى.. كقيمة حب الناس وقيمة تفهم الاختلاف معهم. تتجلى الحبكة الملحمية لليوميات في دوران القصة حول مفهوم القربان والتقرب التي كانت دوما حجر الزاوية في كل المعتقدات القديمة..

 

فموريتانيا التي يريد رئيسها التقرب من الولايات المتحدة بأي ثمن قدم مواطنه قربانا على طبق وضيع مصنوع من العار والهوان للامريكان تماما كما كان طغاة الملاحم القديمة ينحنون بقرابينهم في تذلل أمام الآلهة. رمي ابن صلاحي في غيابات سجون بني هاشم او على الأصح سجون ابي لهب.. ومنها الى قعر جهنم ! لقد جعلنا كتاب يوميات صلاحي نعيد التعرف على زبانية قريش وعلى جلادي الجاهلية، جعلنا نصلي معه كعمار ابن ياسر لكن في شعاب عمان وليس في شعاب مكة.. وحق لنا ان نتخيله وهو يرتل : تبت يدا ابي لهب وتب...!

 

لقد صعقت شخصيا من نوعية الضيافة الاردنية، ومن تخصص تلك المملكة في انتزاع الاعترافات لصالح المخابرات الامريكية، وكأني بعاهل الاردن الذي عهدناه يفاخر بحسبه ونسبه "الشريف" الذي يتصعد به الى العترة النبوية يكتفي بدور الجلاد لصالح امريكا ...أنه أمر مؤسف ومخزي حقا ! في المحن تنتهى السذاجة ، هذا ما يرشح من كتابات ولد صلاحي الذي ظل يحتفظ بصورة رومانسية عن الانسان الفلسطيني ، الانسان المضطهد بامتياز ، حتى كتب الله ووضع فلسطينين في طريقه وكانا من سلك البوليس الاردني.. وكانا بشعان ككل من يرضى لنفسه بدور الجلاد. فكتب يقول عن الجلاد الفلسطيني بالاردن:

"...يصعب عليك ان تفهم ان فلسطينيا يعمل لصالح اميركا من اجل الحاق الهزيمة بالذين يساعدونهم.عرفت ان هذين الشخصين ليست لديهما اية قيم اخلاقية،ولا تهمهم حياة الناس مطلقا.وجدت نفسي بين فريقين متحاربين افتراضا ، وكل فريق ينظر الي كعدو. لقد تحالف الاعداء التاريخيون ليشووني كالدجاج. حقا انه لأمر سخيف ومضحك في آن !..".

 

ليس محمد ولد صلاحي اول من تلقى صدمة البون الكبير بين القضية الفلسطينية المقدسة كأكبر مظلمة انسانية في التاريخ الحديث وبين الانسان الفلسطيني الذي قد لا يحمل بالضرورة قيم ومسؤوليات الهم الفلسطيني... فقبله بعقود احس مواطننا الحاج محمود باه رحمه الله بصدمة مشابهة حين راى في أحد المؤتمرات بعض القيادات الفلسطينية تجاهر بشرب الخمر فقال: كنت دوما اتساءل عن سبب ضياع فلسطين والآن عرفت السبب وزال العجب !

 

يتلاقى مخطوط عمر ابن سعيد مع مخطوط محمدو ولد صلاحي في الميل الواضح إلى الانصاف والتفاهم مع الآخر ففي أكثر من موضع ينوه بالديمقراطية ويشخص داء الطغيان كما أنه حين يصف جلاديه لا يغمطهم مناقبهم بل نجده يتوسع في وصف أي نقطة إيجابية فيهم ويلتمس لهم العذر في أغلب الحالات.. وقد ختم كتابه بفصل كامل عن حراس سجنه تماما كما فعل عمر ابن سعيد باغلب من ذكر من ناس متجنبا التهويل والمبالغة حتى كاد ان يخل بحقيقة المصيبة البشعة التي تجرعها طوال حياته.

 

لقد دفع الابتلاء الفقيد عمر الى اظهار اعتناق النصرانية حتى وان ظل يرفض تسمية المسيح بالرب مفتتحا كتاباته دوما بسورة الملك وقد اجرى مقارانات جميلة بين ام الكتاب وبين ابتهالة ابانا الذي في السماوات الانجيلية.. وهنا يقترب من المسعى الحضاري في كتابات صلاحي الذي لم يمنعه علقم العبودية من مقارنة نفسه بالمذبح الاغسطي الذي اتحد العالم اجمع لتدميره بل ولا يتردد في فكاهة نادرة عن الاشارة الى بطرس الرسول... ومناقشة الثالوث الأقدس مع جلاديه. في الحالة الأولى لا مناص من اعتناق النصرانية لتخفيف العذاب وفي الحالة الثانية لا بد من استيعاب الدين الذي يعتنقه هذا الجلاد الأصم.. وفي الحالتين محاولة راقية وصقيلة لفهم الآخر وتلمس محركاته النفسية والعقائدية.

 

لقد عرف المخطوطان مسارا متشابها ومنحوسا ، حيث ضاع المخطوط الأول بسرعة وهو المخطوط الذي صيغ تلبية لطلب من جمعية الاستعمار الامريكية ثم ظهر للعلن قبيل وفاة عمر ابن سعيد وعرف ترجمة معقدة واعيدت كتابته بالانجليزية مرات ومرات ثم اختفى ولم يظهر الا في بداية القرن العشرين وألهم الكثير من الروائيين والكتاب ثم ضاع المخطوط للمرة الثالثة ولم يتم العثور عليه الا منذ سنوات قليلة وبعودته للظهور عادت الابحاث عن هذه المسألة وكأنه كان يتخفى ليقترن انتشاره الجديد بصنوه المعنون بيوميات غوانتانامو!

 

شرع محمدو ولد صلاحي بكتابة قصته كوسيلة رائدة للدفاع عن نفسه والتفريج عنها في آن، وتمكن من تأليف كتابه في وقت قياسي.. لكن حكومة الولايات المتحدة قررت مصادرة حقه في الكتابة. دخل الكتاب اروقة المحاكم ومكث فيها عقدا كاملا من الزمن، ثم حين بت القضاء الامريكي بحق الناس في معرفة ما حدث استخدمت الادارة قانون سرية المعلومات الاستراتيجية.. وراحت تقتطع من الكتاب الكثير من البيانات. لقد تعرض هذا الكتاب لكثير من الشطط والعدوان وتخطى الشطط أي حد مقبول او منطقي في الحجب والمحاصرة وكدليل على ذلك انظر الصفحة رقم 144 حيث ستجد محمدو يقول : "...ومن جهة أخرى كنت مدعوا الى حفلة عشاء كبيرة اقامها رجل بارز في عشيرتي يدعى.... تعرض الرجل – لسوء الحظ- لحادث سير خطر ، وكان قد عاد من الولايات المتحدة في الآونة الاخيرة حيث كان يتعالج.." يتضح من الفراغات ان ما تم شطبه بأمر رئاسي امريكي هو اسم شخص موريتاني معروف ينتمي لنفس عشيرة ولد صلاحي وبالفعل فهو ينظم حفلات عشاء كبيرة قبل وبعد عودته من رحلتة العلاجية في امريكا واسم هذا الشخص هو :ولد آدبه ولد خطاري واعرفه شخصيا وليس في الأمر أي شبهة أو سر قومي تجب المحافظة عليه .

 

لا أحد في هذا العالم يستطيع أن يفهم وجود أي فائدة من اقتطاع اسماء الناس العاديين من كتاب يسرد قصة صاحبه فما الفائدة أو المغزي مثلا من محو اسم بنت أخت محمدو ولد صلاحي التي تحدث في نفس الصفحة عن زفافها ؟ قد نجد تفسيرا لرغبة المخابرات الامريكية في حجب اسماء طغمة الجلادين والمحققين والحراس لحمايتهم من المتابعة الاعلامية والقانونية لكن ما الفائدة التي تترجاها امريكا من محو اسم العروس أو الشيخ الذي يدعوا افراد عشيرته لوليمة؟ لماذا تريد السلطات الامريكية تقطيع أوصال هذا الكتاب.. ولماذا تحاول دفع القارئ الى الملل من لعبة الكلمات المتقاطعة والمتقطعة التي خلفها حجم الكلمات المخفية ؟

 

بكل صراحة إنها محاولة يائسة للالتفاف على الكتاب برمته وذلك عبرتمزيقه بحجة حماية المعلومات السرية ! انه كتاب عظيم فعلا.. وكيف لا يكون عظيما هذا الكتاب وهو عمل أدبي يحشر أمريكا في الزاوية ويفرضها فرضا على ابدال سوط الجلاد بمقص الرقيب؟ يقف هذا الكتاب على النقيض من أدب الانكفاء والاندحار والتقوقع المسيطر على كتابات العرب والافارقة. ويتخطى بصدق أحداثه كل تقنيات التخييل مذكرا ايانا بأن الواقع اكثر ضراوة من الخيال. لذلك، وبناء على ما سبق، فهو بالنسبة لي افضل ما يمكن ترشيحه لجائزة نوبل في الأدب وهي الجائزة الفخمة التي سبق ونالها ضحايا المظالم الكبرى.

 

لقد استكمل هذا الكتاب الرائع كل شروط الخلود والجلالة لما فيه من توغل في غابات الاحزان حيث يعود بنا في سرعة خاطفة الى انسان المراحل الهمجية الاولى مراحل الانسان المتوحش ..والمفترس..والمجنون! يقول كبار النقاد ان العمل الأدبي كلما غرف من معين المحلية سيقترب من العالمية وهذا ما نلمسه، في اكثر من موضع، فعلى سبيل المثال لا الحصر أورد صلاحي أقصوصة طريفة من المحكي المحلي التي تصف حالة الجبار المجنون حين اقتنع أنه ضعيف وهش كحبة ذرة وان ديكا سيأكله قائلا لكل من حاول اعادته لجادة الصواب عبر إقناعه أن الديك كائن ضعيف ومسالم وأنه هو الجبار والقوي: قولوا ذلك للديك ! إننا نجد أنفسنا في وضعية مجنونة حيث لا تقبل حكومة الولايات المتحدة أن تستمع للغة العقل والمنطق ...لا تريد أن تقبل أن محمدو ولد صلاحي شاب مسكين وبائس ينتمي لعشيرة مسالمة تحب قرض الشعر وتعاطي الأدب وتنبذ العنف والغلو والشحناء.

 

مضحك جدا هو خوف الولايات المتحدة من شاب ضعيف البنية من إيداب الحسن ! مؤسف هو، أيضا ، إزدراء الرئيس أوباما لاستقلالية القضاء في بلاده وامتناعه عن تنفيذ حكم القاضي روبيرتسون ، الذي أمر باطلاق سراح هذا المسكين فورا ودون شروط بسبب توافر الأدلة المقنعة ببرائته. لقد خيب أوباما ظنوننا الطيبة فيه منذ فضل الإذعان لحفنة المجرمين التي تروم طمس الحقيقة كي لا يلاحقها القضاء بعد اقترافها لجرائم بشعة ضد الانسانية.

 

إذا كتب الله ووافقت اكاديمية نوبل على هذا المقترح وتوجت هذا العمل بأكاليلها الفاخرة سيكون ذلك بمثابة رسالة اعتذاروتضامن انساني نبيل موجهة عبر الكاتب لشعوبنا المستباحة والمقهورة. شعوبنا التي كانت ومازالت ضحية للعبودية بكل صنوفها الداخلية والخارجية،كماسيحمل هذا التتويج المستحق رسالة تطمين لامريكا مفادها انها ليست حبة ذرة ولا شيء يدعو للخوف من صياح الديكة! أتمنى على أهل الثقافة في بلادي ان يتبنوا هذا المقترح، وأن يطلبوا من أدباء العالم أجمع تبني هذا المسعى .إنني لجد متفائل.. فمهما طالت النزعات الشريرة فسيبقى في عالمنا من الشعراء والفنانين من يستطيع قول الحقيقة ومعاينة جمالياتها.

 

من جهة أخرى التمس من حكومة موريتانيا - رغم كل خلافاتي معها - توقيف التعاون الامني وتجميد التبادل الاقتصادي مع الولايات المتحدة الامريكية الى ان يتم عتق رقاب مواطنينا الابرياء والمرتهنين في اقفاص غوانتانامو القبيحة. في هذا الاطار يبدو انه اصبح من الممكن الضغط على فرعون واشنطن باراك أوباما الذي وعد ونكث وقال وكذب ...وذلك بتعليق عملية استكشاف واستخراج نفط وغاز اندياغو التي تقوم بها شركة شيفرون الامريكية واعتقد أن قوانين موريتانيا تمنع على حكومتها التعامل مع شركات الدول التي تناصبنا العداء.

ليس في الأمر ما يدفع للقلق أو الخوف.. فشركات الدول الصديقة مثل فرنسا أو الصين أو ماليزيا كلها مستعدة ومتحمسة لقطف ثمار هذا الحقل الذي اكتشفته شيفرون للتو. اعتقد أن بمقدور هذه الشركة العملاقة، في حال تعرض مصالحها لتهديد جدي من قبل حكومة موريتانيا، القيام بالتأثير الحاسم لإقناع البيت الأبيض بتحرير أسرانا خصوصا بعد أن بات واضحا عجز الإدعاء الأمريكي عن تقديم أي دليل يثبت إدانتهم في أي عمل إجرامي.

 

في الحياة الدولية لا مكان لمن لا يطالب بحقوقه ! فلنطالب بحقوقنا. رحم الله عمر ابن سعيد... وفرج كربة محمد ولد صلاحي