الشيخ سيديَ بابَه وموقفُه من نازلة الاستعمار (ح13)

أربعاء, 2015/11/04 - 12:25

      (حقائق - تساؤلات - تحليلات - تصويبات - وثائق)

أحمد بن هارون ابن الشيخ سيديَ

ahmedharoune@gmail.com

مواصلةًلذِكْر بعض وقائع ووثائق الحقبة الاستعمارية وما سبَقها من أحداث ممهِّدة لها. سيتم الحديث في هذه الحلقة عن إمارة آدْرَارْ، (يحيى بن عثمان).

ونظرا لضيق المجال وكثرة أعيان وأسَر وقبائل المنطقة الواردة أسماؤهم في الوثائق، سيتم التركيز في هذه الحلقة، كسابقاتها، على الأمراء، خصوصا الأمير سيدَ اَحمد لَّ اَحمد[1]. أما كِبار علماء المنطقة الذين عارضوا مهادنة الفرنسيين أولَ الأمر ثم كاتبوهم آخرَه، فقد تم الحديثعن بعضهم في الحلقة الثامنة من هذه السلسلة.

مقدمة؛

مدخل تاريخي حول إمارة يحيى بن عثمان؛

اتفاقية 1886م بين الأمير أحمد الِّ امْحمَّدْ والإسبان؛

اتفاقية 1892 بينالأمير أحمد الّْ سيدَ اَحمد وفرنسا؛

الأمير سيدَ اَحمد لَّ اَحمد مقارعا للفرنسيين ومكاتبا؛

نماذج من مراسلات الأمير سيدَ اَحمد لَّ اَحمد مع الفرنسيين؛

تأزُّم العلاقة بين الأمير سيدَ اَحمد لَّ اَحمد والإدارة الفرنسية؛

نماذج من العلاقات التاريخية بين الشيخ سيديَ بابَه وأمراء آدْرار؛

خاتمة؛

المقدمة:

تمَيَّزت الساحة الآدْرارية، أيام توغُّل المستعمر الفرنسي في موريتانيا، بنشاط وتعقُّد مشهوديْن ناتجَيْن عن وجود قيادات ومجموعات عُرفت بشدة رفضها، أولَ الأمر، للمغامرة الاستعمارية والاتفاقيات السلمية التي عقَدها نظراؤهم في مناطق البلاد الَمحاذية للسنغال ومالي مع المقيم الفرنسي كزافيي كوبولاني.

ومع حصول هذا الاختلاف في وجهات النظر وتحوُّله إلى سجال فقهي وصراع مسلح وتهديدات متبادلة، والتأخُّر النسبي لدخول الفرنسيين إقليمَ آدْرار، أصبح هذا الأخير محطَّ رِحال كُلّ معارض للمهادنة وكُلِّ مغاضب، أميرا كان أو قائدا أو محكوما عليه في الحوض والبراكنة والترارزة وتكانت... مما دفع المؤرخ الأطاريَّ عبدالودود ابنَ انتهاهْ إلى تسمية ذلك العام (1324هـ) «عام مجيء المحاصر».[2]كما تحدث عنه ضباط وإداريون فرنسيون، كالنقيب غاستون دوفور (Gaston Dufour) الذي يقول في كتابه حول العمليات العسكرية بموريتانيا:«لجأ المنشقون إلى آدرارْ، لكن اتفاقهم مع قبائل هذه المنطقة لم يدُم طويلا؛ ثم أقنعتْهم المجاعةُ خاصةًبالرجوع، رويدا رويدا، إلى ميادين ظعنهم المعتادة، إما بتقديم طاعتهم إلينا مباشرة، أو بالتسرُّب داخل المجموعات التي سبق أن خضعت لنا».[3]

ينضاف إلى ذلك كُلِّه موقع آدرار الاستراتيجي وتضاريسُه الخاصة ومحاذاتُه لإقليم وادي الذهب المحتل من قِبَل إسبانيا، والذيظل منطلقالغزوات شبه دائمة على آدْرار والترارزة والبراكنة والرقيبة والحوض وأزواد، ستتركز فيما بعد احتلال البلاد على الفرنسيين والسكان الخاضعين لهم، متخذة من الحدودالإسبانية حصنا حقيقيا، حسب عبارةالرائد الفرنسي جيلييه (Gillier)،مضيفا أن الأمر بلغ بالإسبان حدَّ منْح اللجوء لقَتَلة الترجمان المحلي بنواذيبوسنة 1908.[4]

أما آدْرار فقد انطلق منه كثير من الغزوات ضد الفرنسيين، خصوصا بعد احتلال تكانت، وخاصة بعد دخول مولاي إدريس على الخط. ومن أهم تلك الهجمات الآدْرارية وأكثرها رمزية قتلُ قائد الحملة الفرنسية كزافيي كوبولاني على يدرجل المبادئ والقناعة الدينية الشريف البطل سيدي ولد مولاي الزين.

وبغض النظر عن الجدل القديم والمتجدد حول النتائج المترتبة على مقتل قائد استعماري مدني وإحلال عسكريين محلَّه، إلا أن الأخبار والقرائن تفيد كلّها بأن هذا الرجل قرَّر التضحية بروحه والخروجَ من آدرارْ إلى تكانت إرادةَقتل كوبولاني بناء على قناعته الدينية.[5]

كذلك، من أجَلِّ وأفظع الأحداث التي عرفها آدْرار والبلد كلُّه، أيامَ الاستعمار الفرنسي، قَطْع رأس الأمير الشاب البطل سيد احمد بن أحمد ابن عيدَّه، انتقاما للضابط الفرنسي ميسات (Mussat)والحرسي الترزوي بوبكر ولد احويرية وبعض الرماة السنغاليين.

مدخل تاريخي حول إمارة آدْرار:

تأسست هذه الإمارة المغفرية أيام عثمان بن الفظيل في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي ودخلت مبكرا في التبادل التجاري مع الشرْكات الفرنسية على ضفاف نهر السنغال، مما جعلها تندرج في إطار العالم التجاري المنتظم تحت إشراف الاستعمار الأوروبي.[6]

وقد وفد عليها البرتغاليون الذين شنوا حملات عسكرية في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين ووصلوا وادان وبنوا منشآت في جزيرة آركين. كما تعرضت منطقة آدرار، ومدينة وادان بالتحديد، لهجمات قادمة من المغرب سنتي 1543 - 1544 استمرت في القرنين السابع والثامن عشر،وصلت إحداها مدينة شنقيطي سنة 1665م قبل أن يحل بها السلطان المولى إسماعيل فيما بين 1678 و 1679م.

وخلافا لما دأب عليه الفرنسيون قبل احتلال البلاد من تدخل مباشر قوي في الشؤون الداخلية للإمارات المتاخمة لمستعمراتهم الإفريقية، فإن اتصالاتهم بإمارة آدرار ظلت محدودة، حيث اقتصرت على مهام كل من باني (Panet) 1850م وفينسان وابن المقداد 1860، قبل رجوع هذا الأخير السنةَ الموالية، وبعثة بلانشي (Blanchet)1900.وبطبيعة الحال، لم يحُلهذا البعدُ الجغرافي دون ربْط المستعمر بعض الصلات عن بُعد مع إمارة آدرار، ما بين 1877 و 1891، خلال مأمورية كل من الحاكمين دولز (Douls) وفابير (Fabert).

ويصف فيديرب أرض آدرار، سنة 1859، قبل أن تطأها قدم أي من أولئك المستكشفين قائلا:

«على بعد ثمانين أو مائة مرحلة شمالي السنغال، وعلى نفس المسافة - تقريبا - من تكانت، توجد واحة تضم عدة مدن أو قرى ومزارع للحبوب والتمور هي آدرار، ورئيسُه ولد عيدَّه، من قبيلة أولاد يحيى من عثمان المحاربين في أغلب الأحيان لمحمد الحبيب ملِكِ الترارزة، الذي تقع إمارته بين آدرار والسنغال. كما يعتبر أولاد يحيى من عثمان محاربين أيضا لقبيلة أولاد ادليم».[7]

أبرز أمراء آدرارْ:

توطدت أركان إمارة آدرار في عهد أحمد ولد عيده بن سيد احمد بن عثمان ولد لِفظيل، بعد أن حكم زهاء خمس وثلاثين سنة، تخللتها حروب عديدة، أشهرها حربه المشهودة مع الترارزة بقيادة أميرها محمد الحبيب ولد أعمر.

اضطربت أحوال الإمارة اضطرابا شديدا بعد وفاة الأمير أحمد بن عيدة حتفَ أنفه سنة 1861م، حيث تنازع أولاده الخلافة وكادوا يتفانوْن في سبيل ذلك. فقد قُتِل كبيرهم امحمد على أيدي أخويه عثمان ومحمديوم وفاة والدهم.

ثم آل الأمر سنة 1872م إلى الأمير أحمد بن امحمد،المشهور بـ "عافيته"، وأمُّه مُنِّينَه بنت اسويد احمد، أخت الأمير بكار، إلى أن اغتيل سنة 1309هـ/1891م،هووابن كركوب و ابنَيْ مَكَيَّه: إبراهيم والحضرمي،أثناء أدائهم صلاة المغرب، من قِبَل مجموعة من قبيلة إدَيْشِلي الآدْرارية يقودها سالم بن بُشامَه.[8]

 

 

 

اتفاقية 1886م بين الأمير أحمد الِّ امْحمَّدْ والإسبان:

بعد عودة "كوبولاني إسبانيا" إميليو بونيلي (Emilio Bonelli)[9] من رحلته الاستكشافية في المنطقة، ألحَّ في تقرير له مؤرخ بالسابع من إبريل سنة 1885 على أن في المنطقة رجُلين يملكان من السلطة والقبول ما يجعل من المفيد صداقتهما: عبدالعزيز بن الشيخ محمد المامي وأحمد بن امحمد ابن عيدَّه.[10]

ويقول الكاتب المغربي محمد دحمانفي مقدمة كتابهالمذكور آنفا:«وقد تقرَّب بونللي من زعماء القبائل الذين يسميهم الأشراف، بغية استمالتهم واستقطاب القبائل والاستفادة من التجارة العابرة للصحراء.ومن بين هؤلاء الشريف ماء العينين، الشريف أحمد عايدة، بيروك (...) وقد وجد بونللي في صداقة هؤلاء دعما لمشروع إسبانيا الاستعماري، ولتطوير التجارة بإفريقيا. ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد، بللعب هؤلاء دور الوساطة».

وقد ذهب مذهبَ بونيلِّيالمهندسُ المخترع والعسكري والمستكشف الإسباني خوليو سربيرة (Julio Cervera)، حيث يقول في تقرير أعده بعد رحلة استكشافية قادته إلى آدرار: «يحيى بن عثمان هم أكبر قبيلة في المنطقة، وهم سادة آدْرار، وسلطانهمهو أحمد بن محمد ابن عيدَّه. إنها القبيلة الأكثر عددا والأشد رهبة واحتراما هناك. ويمتد نفوذ ابن عيدَّه من الساقية الحمراء غربا إلى تومبوكتو شرقا.»[11]

وبالفعل أبرمت إسبانيا في العاشرمن شوال 1303هـ (12 يونيو 1886م) اتفاقا مع أمير آدرار أحمد بن امحمد، بموجبه يعترف هذا الأخير بالسيادة الإسبانية على إقليم آدرار التمر، ويعلن خضوعه هو وقبيلته لحماية إسبانيا. لكن هذه الأخيرة لم تَقُم عمليا بتفعيل الجزء المتعلق بالحماية من الاتفاقية المذكورة.

وجاء في النسخة العربية من الاتفاقية أنها وُقِّعت بحضور الإسبان التالية أسماؤهم:السيد الأجل خوليو سربيرة بيبار (D. Julio Cervera y Baviera)، رئيس المهندسين،والسيد الأجل فرانسيسكو كروفه ردريكي (M. Francisco Quiroga)، ماهر جل العلوم ومدرس بمدرسة مجريط، والسيد الأجل بلوبوس (M. Felipe RizzoRamirez)، قنصل من الصنف الأول وماهر لغات...

وهذه بعض فقرات الاتفاقية، كما وردت في النسخة العربية، مع أن النسخة الإسبانية أوضح وأدق، وكذلك الترجمة الفرنسية التي قدمتها حكومة إسبانيا سنة 1975 إلى محكمة العدل الدولية الخاصة بقضية الصحراء الغربية:

«إن أحمد بن امحمد ولد العيدَّه، شيخ آدرار التمر متولي على يحيى بن عثمان، بحضور أكابر وأفضل أشخاص دائرته، والشيخ جدو، من أولاد يحيى بن عثمان، وعثمان بن محمد بن قيميش والشيخ بن أجيوان الشنقيطي وإبراهيم بن مكيه وسيد احمد بن الدي وسيدي اعبيد، فهم موافقون بطاعتهم لحكومة إسبانيا على استيلائها على كافة أرض آدْرار التمر؛ وأهلُه داخلون تحت حماية إسبانيا.».

وتأكيدا للخضوع، يُسَلِّم الشيخ أحمد بن امحمد ولد عيدَّه حصانه وبندقيته لرئيس البعثة الإسبانية، ويطلب من حكومة إسبانيا أن ترخص له في استعمال خاتم خاص يؤشر به الوثائق والمراسلات الرسمية التي سيتم تبادلها فيما بعد مع الحكومة الإسبانية...»[12]

وفي المنحى نفسِه ذكر بيير بونت أن الأمير أحمد بن امحمد تلقَى سنة 1886م رسالة من سلطان المغرب يعترف فيها بنفوذه في التخوم المغربية الجنوبية؛وأنه استقبل في السنة نفسِها بعثة استكشافية إسبانية،انطلقت من منشئاتهمعلى السواحل الموريتانية؛وأن تلك البعثاتنجحت في إبرامعدة اتفاقات مع سكان المنطقة خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر.[13]

اتفاقية 1892 بين الأمير أحمد الّْ سيدَ اَحمد وفرنسا:

بعد إصابته القاتلة، اختار أحمد بن امحمد، الذي لم يكن له ولد ذكر، ابنَ عمه أحمد بن سيد احمد خلفا له، وكان قد نفاه إلى الترارزة، فانتقم له مُنَكِّلا بقتَلَتِه وحلفائهم،وقاد حروبا مريرة ضد إدوعيش الذين حالفه النصر عليهم في أيام: بُعَرْ والطرطيكه ولَمْرايرْ، بينما حالفهمالنصر عليه يومي اكصر البركه وفرع الكتان.وقد خلَّفت هذه الحروب الماحقة اضطرابا شديدا في المنطقة وتقلبات مذهلة في تحالفاتها؛ ليزدادالوضع اضطرابا بعد موت أحمد بن سيد احمد إثر سقوط داره عليه في موسم "القيطنه" لسنة 1899م، ودخول الإمارة في أزمة حادة أخرى، لم تنته إلا بتولِّي ابنه الشاب سيد احمد الإمارة سنة 1904.

كان الفرنسيون قد تمكنواأيامَ أحمد بن سيد احمد، بواسطة ولد ابن المقداد، وبعد محاولات حثيثة،من توقيع اتفاقية 1892؛التي التزمت فيها فرنسا على نفسها بأن لاتتدخل في أي شيءمن أمور آدْرار الخارجة بينهم[14] بل تعِين أميرَ آدْرار بقدرتها على جميع أعدائه؛كما التزمت بأن تدفع له 500 قطعة قماش سنويا، رفعوها سنة 1899إلى 800 قطعة، مع احترامِ القوافل القادمة من آدرار، مقابلَ تعهُّد الأمير بعدم توقيع اتفاق مع أي قوة خارجية، في إشارة إلى إسبانيا وألمانيا، وأن لا يقبل السكنى لأحد في أرضه إلا بموافقة فرنسا.[15]

وفي رسالة بتاريخ 21 سبتمبر 1892، صرح الأمير المذكور بقبوله مشروع المعاهدة الذي عرض عليه فابير، مع ذكره للوالي الفرنسي أن في عنقهبيعة لسلطان المغرب المولى الحسن.

خلَف الأميرَ أحمد بن سيد احمد الأميرُ المختارُ بن أحمد بن عيده؛ وذلك لمدة وجيزة من سنة 1317هـ/1899م، ثماعتزل. وقد اتسمت تلك الحقبة بالقلاقل التي أثارتها بعثة بلانشي، الاستعراضية والاستكشافية في نفس الوقت.

في تلك المدة بالذات تفاقمت المخاطر المحيطة بالإمارة. فقد تمكن بكار بن اسويد احمد، العدو اللدود لجل أمرائها، من تفعيل تحالفه مع أهل سيدي محمود وتجكانت وكنته، رغْم انتصار أولاد عمَّني، بيت الإمارة الآدْرَارية، لقبيلة كنته في نزاعها المرير مع أولاد أبي السباع ونهوضِهم ضدهم سنة 1319هـ/1901م في آكنيتر (عام لمونكْ). غير أن أولاد أبي السباع الذين استفادوا في تلك الأثناء من اقتناء مئات البنادق سريعة الطلق من انْدَرْ، أعادوا الكرة على محلة الإمارة شتاء سنة 1320ه/1902م عند بوخزامه، قبل أن يستدرجوا أولاد عمَّنّي عام اجريفي إلى الساحل، بتمالؤ أولاد ادليم، ويقضوا عليهم قضاء كاد أن يكون مبرما، ويقتلوا الأمير الوقتي أحمد بن المختار ويسلبوا خيل الإمارة الأصيلة في السنة الموالية 1321هـ/1903م.[16]

وبموت أحمد بن المختار بن أحمد بن عيده،وقبل اعتلاء سيد احمد بن أحمد سُدَّتها. أشرفت إمارة آدْرار على الأفول، نتيجة الفراغ الذي عرفته السلطة، وما صاحب ذلك من قلاقل واضطرابات، صاحبتها سنون شِداد مات خلالَهن خلق كثير بسبب القحط.

تِلكم كانت بعض الملامح السياسية البارزة لإمارة آدْرار عشية دخول المستعمر الفرنسي إليها.

ويقول عبد الودود بن انتهاه:«إن زمن هؤلاء الأمراء كان مطابقا لزمن طبقة العلماء الذين لم يأت الزمان بمثلهم، وهم علماء الظاهر والباطن، مثل: الشيخ محمد فاضل والشيخ ماء العينين ومحمد بن محمد سالم وأبنائه. ومن علماء الظاهر: أحمد بن عبيد ومحمد سدين بن بر وأخوه محمد السالك ومحمد الأمين بن سيدها والشيخ بن حامَّن وأحمد بن حبت وغير وغير ممن يضيق الصك عن ذكرهم، فهم في الأرض مثل الجبال يمنعونها من المَيد. فلما انقرضوا مادت بأهلها وأشرفت على الخسف مما حل بها من سفك الدماء ونهب الأموال، ولم تزل على ذلك حتى قدم عليها عسكر الفرنساوية.(...)ثم في أثناء هذا جاءت الفرانسة ووجدوا الأرض في أعلى ما يكون من السيبة، من نهب الأموال وقتل النفوس، فرد الله السيبة بهم وأظهرهم على كل عدو محادٍّ لله ورسوله».

ويختم مؤلَّفَه هذا، والمسمَّى "نيل الأوطار في الغامض من الحروب والأخبار"،قائلا:«ومات الظلم، لا رحم الله أهله، وانحطَّ قدرُه وتمكَّن أهل الدين من إقامته، وما كنا نظن أن هذا يوجد في الدهر(...)والحمد لله الذي أراح عباده منها وأنامهم في ظل العافية...»[17]

الأمير سيدَ اَحمد لَّ اَحمد مقارعا للفرنسيين ومكاتبا:

كان الأمير سيد احمد بن أحمد بن سيد احمد بن عيده أيام احتلال الفرنسيين البلاد شابا يافعا لما يتجاوز الخامسة عشرة من عمره. وكان شاعرا حسانيا مجيدا وفارسا راميا. بل قيل إن الأمير سيد احمد كان أمهر رماة آدرار! وصفه بذلك النقيب دوتون لويوسكي D'Otton Loyewski) في كتابه المسمى "غزوات على آدرارْ".

...اعْظمْ راجلْ فارسْ مسمومْ==ژدافْ ؤُ مفتوحْ أ ژوانْ

فعلكْ زينْ ؤُ مسْتطْفلْ لومْ==مَ گاع انتَ مايُورَ شانْ...

كما يقول امحمد ولد هدار في إحدى مدائحه له.

تربى سيد احمد في كنف الشيخ العلامة ماءِ العينين بن الشيخ محمد فاضل، الذي جلبته والدته إلى حضرته، قبل أن ترى مجموعة أولاد غيلان استقدامَه وتنصيبَه على عرش آبائه. إلا أن شخصية الأمير القوية وحرصه على استقلالهوتدبيره أمر الإمارة بصورة دون معقّب منعه من الارتهان لتلك القبيلة المحورية في إمارة آدرار.وقد نتج عن ذلكإذكاءٌ وتأجيج لصراعات عديدةبين فروع القبيلة المذكورة وزعاماتها المتعددة، وحدوث سلسلة من الاغتيالات المتبادلة بينها وبين أولاد عمَّني بيت الإمارة.

في عهد الأمير سيد احمد، وفي يناير 1909، دخل الفرنسيون آدْرار. وقد جاءوا معهم من المجرية بالأمير المختار بن أحمد بن عَيْدَّة، الذي سبق أن وَلِـي الإمارة لمدة وجيزة من سنة 1900، وبابنه سيد احمد بن المختار، الذي اختاروه أميرا "رسميا" من 1909 إلى 1912، قبل أن يعيدوا الأمير سيد احمد بن أحمد، الذي ظل يقارعهم حتى أسروه في تيشيت بعد إصابة تمت معالجتها في مدينة انْدَرْ السنغالية. وكان مع الفرنسيين يومَها الأمير أحمد ولد الديد وجماعة من أولاد امحمد (لعلب).

قبل ذلك بسنوات، كان القائد الآكْشاري امحمد ولد المعيوف، قد اتصل بالفرنسيين سنة 1908 وكاتبهم سنة 1909، ليسندوا له قيادة أول مجموعة قتالية موالية لهم، وذلك قبل أن يهاجر عنهم إثرامتناعهم عن مساندته في نزاع يتعلق بنخيل رجل من إديشلي. كما اتصل بهم الفَنَانه بن الديك وأخوه اعلي قائد مجموعة الطرش الغيلانية، قبل أن يتبعه زعماء هذه القبيلة ذات النفوذ الواسع في ربوعها بإيعاز من سيدي حرمه بن اخطيره الذي كانت كلمته مسموعة لدى قومه ولدى الأمير. فانضم لهذا التوجه أهل امحيمد، رؤساء نغموشه وأهل ببوط، زعماء أولاد سله، بالإضافة إلى أحمد بن كركوب، من قادة التحالف المعروف بالجعفرية.[18]

أبرم الفرنسيون مع الأمير سيد احمد بن أحمد معاهدة "حماية" على غرار تلك التي وقعوا مع الأمير أحمد سالم ولد اعلي (بيَّاده) الترُّورزي[19] أثبتوا له بمقتضاها إتاواته على أتباعه الغارمين، إضافة إلى راتب سنوي قدره 8000 فرنك وعشرة أطنان من التمور أو قيمتها من الغِلال المحلية.وبالمقابل، التزم الأمير باكتتاب قوة قوامها أربعون فردا لمواجهة ما سموه "النهَبة" وضمان الاستقرار الداخلي. كما التزم بتوفير مجموعات من المشايعين المسلحين عند طلب السلطات الفرنسية، يكلَّفون بالدعم في الحملات الخارجية عند الاقتضاء، وتسهيل الاكتتاب الطبيعي لأعوان القوات الفرنسية (المادة 10).

جاءت هذه الترتيبات قبل تحويل موريتانيا سنة 1920 إلى مستعمرة منفصلة عن السنغال، وتحديدا في الفترة التي ساد فيها ما اصطُلح عليه وقتَها بسياسة "العُقداء" «politique des colonels» التي خلص فيها المسؤولون العسكريون الفرنسيون إلى ضرورة الاعتماد على أصحاب الشوكة من حسان للتصدي للمقاومة التي يواجهونها بدل الزوايا الذين كان كوبولاني وخلَفُه غورو يعولان عليهم أكثر. غير أن الأمر أثار في آدرار، وفي غيره من المناطق، تناقضات حول "حرْفية " اتفاقية الحماية والسلطات التي تمنحها للأمير؛ فكان من تجليات ذلك استياءُ هذا الأخير من سماح الفرنسيين لقبائل الشمال بالانتجاع في "حوزته الترابية" دون ترخيصه، مما أدى إلى نزاع كانت نتيجته نفْيَه مجددا إلى انْدَرْ في مايو 1918.

وكان الأمير قد أرسل سنة 1915 مفرزة من حرسه لمنع مجموعات من الرقيبات من التوجه شمالاوالالتحاق بمرابعها الأصلية بعد انتجاعها في آدرار، فقتلوا منهم خمسة عشر فردا وغنموا ما بين سبعة وثمانية آلاف رأس من الإبل.[20]

نماذج من مراسلات الأمير سيدَ اَحمد لَّ اَحمد مع الفرنسيين:

قبل أن تسوء علاقته بالمستعمر، كتب الأمير سيد احمد عدة رسائل إلى الحكام الفرنسيين، جاء في إحداها ما نصُّه:

«من أمير ءادرار سيد احمد بن أحمد بن عيد إلى نائب الدولة الفرنساوية في أراض البيضان كلنل أوبسي السلام التام. موجبه أني حامد لك ما فعلت لوالدتي عيشَ بنت اعلِ؛ وإني متخذ لك والدا مكان والدي كلنل موري، وأطلب من فضلك أن تعرف لي ذلك. واعلم أني حامد لحاكم ءادرار كابتن مودا وعيالِه ولا سيما يطن ينير، وقد وجدت منه الإحسان والعنوة وسياسة الأمور. واجبٌ أن يكون هو الحاكم علينا أبدا إن أمكنت ولا أظنها أن تمكن عنده. والسلام سيد احمد تاريخ 20 المحرم 1333».[21]

وجاء في رسالة أخرى يسمى كاتبها "سيد محمد"؛ ويغلب الظن أنه خط العلامة سيدي محمد بن حبت:«من أهل ءادرار أولاد غيلان وأهل شنجيط إلى نائب الدولة الفرنصيصية في أرض البيظان كبلان لتعلم أنهم على عهد النصارى الذي كان بينهم وأنهم لم يتعرضوا لك في شيء، فإن كنت كذلك وكنت تحب العهد والعافية وعدم قطع الطريق على المسلمين والنصارى فأحمد القادم عليك هو النائب واطبع له على ذلك. ومن ذلك أنك لا تأخذ عليهم ما تأخذ على غيرهم من قليل ولا كثير وتتركهم على دينهم، كما تعلم أن ذلك هو الحكم، ولا تتعرض لعبيدهم ولا نسائهم ولا صبيانهم ولا استيلاء عليهم، كما تعلم أن ذلك هو الذي يفعله مثلك من أهل الهم والعافية معهم، وهم لم يدخلوا مع إدوعيش فيما هم فيه. وإن كنت غير ذلك فإنا لله وإنا إليه راجعون، وهم على تكانت وإن اتيتها يرجعون إلى أرضهم، والذي حملنا على مجيء تكانت إنما هو لشدة أرضنا ضيفان مرتخ. واعلم أن أولاد أحمد أكلوا لنا في مكانكم مالا كثيرا وكتبه سيد محمد على رأس سنة...».[22]

كما كتب الأمير سيد احمد بن أحمد والعلامةُ المشهور عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم المجلسيُّ إلى الوالي الفرنسي على موريتانيا كتابا، جاء فيه:

«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا الكتاب مبعوث لنكلنير، أيْ يطْنَت كلنير، وكيل دولة لفرانص في أرض البيظان، من أمير آدرار سيد احمد بن أحمد بن عيْدَّ، ومن العالم الزاوي عبدِ القادر بن محمد بن محمد سالم. هذه البراوة مبعوثةٌ ليطنت كلنير، حاكمِ أرض البيظان. موجبُ هذا الكتاب ليكون في كريم علمك ثباتُ صداقتنا ونيَّتِنا للفرانسة، ولا ننفصل عنهم، التي هي حاميتنا وحبيبة المومنين. وهذه البراوة متضمَّنُها هو عزيمة عيالنا ونيتُه كلّه وأصحابِنا القاطنين بآدرار، "تخْمامْهُمْ" هو "تخْمَامْ" لفرانص، ونحن كلنا رجالهم؛ ولأجل ذلك نعلم المعلوم المبيح، ونحن انبعد من من زين في الغلط ويروون أكذب، ونحن ننظر أفعال الناس ونتبع الصالح منها ولا نترك أنفسنا تضيع بكلام أهل النميمة الذين أضلهم الشيطان، والأديان كلها كذلك، ونحن نعلم من يفعل المعلوم لنا ونكافئه بمثله دائما. قاله وكتبه أمير ءادرار الواضع اسمه في ءاخر الكتاب في طابعه نيابة ومتكلما عن جميع من ذكر من الناس. كتب (...) ولد اعمر في يوم السبت عاشر المحرم، عام نصرنا الله وإياكم نصرا بينا على الأعداء حتى لا يبقى منهم أحد إلا نفي من الأرض. عبد ربه أحمد بن عبد القادر عن أبيه وجماعته عام 1333". يلي ذلك ختمُ الأمير وتوقيعٌ باسم أحمد، لا أدري هل هو توقيعه أو توقيع الكاتب.[23]

وفي رسالة مؤرخة بسنة 1894م، ذكر الوالي الفرنسي في اندر أن من مآخذه على بكار محاربته لحليفهم، سيد احمد بن أحمد ابن عيدَّة، ومحاولته إزاحته من السلطة. وذلك في ردٍّ له على رسالة لأمير البراكنة  أحمدو بن سيدي اعلي يسأله فيها عن الرَّدّ المناسب على ما عرَضَ عليه بكار بن اسويد احمد من صُلح.[24]

وهذا نص الرسالة الجوابية:

«من أمير اندر إلى أحمد بن سيد اعل أمير لبراكن سلام. موجبُه أني حامد لك أشد الحمد في إعلامك إياي لما أرسل به بكار بن اسويد احمد من طلب العافية، ولكني لا أقول لك (إلا) ما قلت قبْلُ، وهو أن بكار خالٍ من الرغبة في مصالحتنا والعافية معنا؛ والدليلُ على ذلك كونه عدوا لكل من عاهدنا، وحتى الآن لم يزل في شر مع ولد عيدَّ، أميرِ آدْرارْ، صاحبِ عهْدِنا، وإنه يخدم ابن بيروكْ، أمير وادنون، لشر ابن عيْدَّ، وإنه يريد حيازة أهل سيدي محمود وكونه ساع في إحازة كنت إليه وكونه أيضا ساع فيما يضر ابن عيد حتى اليوم خادم قبيلتين من أهل ءادرار كأولاد ءاكشار وأولاد غيلان...».[25]

تأزُّم العلاقة بين الأمير سيدَ اَحمد لَّ اَحمد والإدارة الفرنسية:

اتسمت علاقة الأمير سيد احمد بن أحمد بالمستعمر الفرنسي بكثير من المد والجزر. وقبل أن يمنحوه ثقتهم ويرجعوه إلى منصبه الأميري، اختبروه بعض الاختبارات، من أصعبها مشاركته في حملة موري على السمارة، حضْرةِ الشيخ ماء العينين، شيخِه الذي تربى في حضنه؛ وكان إلى ذلك الوقت مُلهِمه وموجِّهه في مناهضته للفرنسيين، كما كان ابنه الشيخ حسنا مستشارا دائما له.

لقد حصلت بعض الأحداث، حسب بيير بونت، التي دفعت بالأمير سيد احمدإلى الهجرة. وذكر من ذلك أن الإدارة الفرنسيةوقفت، بعد التحري، إلى جانب أتباع للأمير اعترضواعلى استحواذ هذا الأخير على جزء من ميراث رجال منهم ماتوا دون ورثة. وكانت قضية مشابهة قد وقعت مع مجموعة أخرى.[26]

كما ترجعبعض الوثائق الفرنسيةهجرةَ الأمير والتأزُّم في علاقاته مع الإدارة الفرنسية إلى إهانة تصدَّىبها المترجم محمد با للأمير.[27]

ويضيف بونت أن الأمير سيد احمد، وفي إطار نزاعه مع التوابير وحلفائهم من كنته، أقنع الحكام الفرنسيين بعزل سيدي بن سيدات، زعيم هذه القبيلة المعروف، واعتقاله وسَجْنه سنة 1916. وأنه عمل على إضعاف إديشلي،الذين حمل الإدارة الاستعمارية على تجريدهم من السلاح وفرْض غرامات كبيرة عليهم؛ وقد حاول نفس الشيء مع أولاد غيلان سنة 1915، لكن دون جدوى.[28]كل هذه الاصطدامات والأحداث أدت بالإدارة الاستعمارية إلى مراجعة موقفها مما اعتبرته استخدام الأمير لها لبلوغ أهداف داخلية، فأقدمت على إعفاء مترجمها الرئيسي الذي كان في نفس الوقت زوج أخت الأمير، في شهر مايو 1917.

وقد جاء في إحدى رسائل الأمير سيد احمد إلى الفرنسيين ما يفيد بتصادم بين النظام الفرنسي والنظام المحلي في شأن معاملة الأتباع والمغارم المترتبة عليهم من قديم الزمان، حيث يقول:

«سلام أطيب من كل سلام تام بالتحية والإكرام، من الأمير سيد احمد بن عيد إلى كماند مودا نائب الدولة الفرنساوية في أرض البيضان. موجبٌه أنه يحمد لك كل أمر لاسيما ما كتبت له في الكتاب الذي هذا جوابه؛ ويحمد كورو جنرال غاية. واعلم أن عدد ماله من الغفر في الحوض زامل على (...) وغفر على (...) مائة حاجة، بعضها جيد وبعضٌ متوسط وبعضٌ دون ذلك، وقلادة ذهب وما ثم من (...) خيام يقال لهم (...) وما تعلق بهم، وخيمة يقال لها (...) وما تعلق بالجميع من (...) جميع ذلك أصحابهم، كلهم ناقة. والسلام وكتب لعشر خلت من ذي القعدة عام 1333وهذا الكتاب كتب في بلد ليس فيه الطابع».[29]

ويقول بونت: «إن عودة الأمير من منفاه الثاني، سنة 1920، تصادفت مع إلغاء نظام الحماية وتحويل موريتانيا إلى مستعمرة، مما قلص بالفعل من صلاحياته وصب في مجرى استيائه من أفعال المستعمر».[30]

أما فيما تلا ذلك من سنوات، فقد بدأت الأوضاع تتفاقم وتتسارع، وكان من آخر ذلك وأجلّه قتل الفرنسيين للأمير وقطعهم رأسه وتمثيلهم به.

تمثيل الفرنسيين بجثةالأمير سيدَ اَحمد لَّ اَحمد:

 انتجع الأمير سيد احمد و"حلّتُه" شمالي آدْرار في الشهر الثانيمن سنة 1932م، فتوجس الفرنسيون خيفة من دخوله الأراضي الخاضعة لسيادة الإسبان والاتصالبهم، فبعثوا فرقة يقودها الملازم ميسات (Mussatt) لمرافقته ولئلا يفقدوا أخباره... فقام الأمير بذبْح الضابط المذكور بسكينه الخاصة وقتَل مرافقوه الحرسيَّأبا بكر ابن احويرية الترُّوزي وخمسةً من القناصة السنغاليين، ثم توغلت "الحِلّة" أكثر نحو الشمال... لكن الزعيم الغيلاني أحمدو ولد اخطيرة والحرسي المختار ولد احويرية، أخا أبي بكر، نجَوَا من القتل والتحقا بفرقةشنقيطي المتنقلة عند اكنيبس، ليخبرا قائدهما النقيب لوكوك (Lecoq) بما حدث، فقام هذا الأخير بمغامرة انتقامية جنونية، أمر أن لا يرافقه فيها إلا متطوع بملء إرادته، فكان الأمير متقدما عليهم بأربع وعشرين ساعة وكان الماء معدوما في تلك المنطقة المأهولة بأحياء الرقيبات المعادية وقتَها للفرنسيين...

ذهبت مع لو كوك مجموعتان من حرسه: إحداهما ترّوزية يقودها المختار ولد أحمد ولد اعلي، وأخرى آدْرارية تضم على وجه الخصوص أحمد سالم ولد التلمودي وأخويه محمد وعالي، ثم التحق بهم الزعيم الغيلاني محمد المختار ولد امحيميد ومحمد ولد الشّح وخمسة مقاتلين آخرين التحقوا طواعية بالمطاردة... ليلتحق الجميع بالأمير و"حِلَّتِه" ويباغتوهم صبيحة 19 مارس 1932 قرب وديان الخروب، فبقي الأمير ورفقاؤه يقاومون مقاومة باسلة إلى آخر رمق. حتى إذا أصيب الأمير بثلاث طلقاتقاتلة وتوقف القتال...فاقترب لوكوك من جثته وأمر مساعده صمبا بقطع رأسه انتقاما لملازمه ميسات.[31]

نصَّب الفرنسيونأحمد بنَ المختار ابن عيدَّه، المعروف بأحمد ولد الداه، خلفا للأميرَ سيد احمد لَّحمد، فلبث في الإمارة أكثر من خمسين سنة.

نماذج من علاقات أمراء آدْرار بالشيخ سيديَ بابَه:

كانت للأمير القوي أحمد بن سيد احمد صِلات معروفة بالشيخ سيدي بابَه، موضوع السلسلة. وقد جاء في إحدى رسائله إليه ما نصه:«الحمد لله مستحق الحمد والصلاة والسلام على سيدنا محمد وبعد، فسلام من أحمد بن سيد احمد بن أحمد بن عيْدَّ إلى الشيخ سيديَ بن الشيخ سيدي محمد بنِ الشيخ سيديَ. موجبُه أنه على العهد القديم والود الصميم ولا بد له من إعانة، ظاهرةٍ بوجهك في العرب وشغلك فيهم، وباطنةٍ بسرك بينك وربك، فإنه المقصود، فإن حكمك مسمط لا يحتاج لشيء. والسلام أبنو بن سيدن».

وقدكان لتلك العلاقات جذور تاريخية، ذكر بعضا منها هارونُ بن الشيخ سيديَ وعبدُالودود بن انتهاه. من ذلك قول عبدالودود في "نيل الأوطار":«أرسل أحمد بن عَيْدَّ للسالك بن أحْمدناه بأن يكاتب الشيخ سيديَ في العافية بينه مع محمد لحبيب ويكون الشيخ هو الواسطة في ذلك، وهو السائل لها من نفسه دون ذكر السالك وأحمد بن عيدَّ، لأن الشيخ جُلُّ أهل آدْرار تلامذته وأهلُ هديته، فلا تهمة للمذكورين في كونه واسطة في العافية لأهل آدرار. وقد كتب السالك للشيخ سيديَ رسالة لم ير مثلها...».[32]

وقد جاء في إحدىرسائل الأمير الكبير أحمد بن عَيْدَّه إلى الشيخ سيديَ الكبير ما يوحي بمتانة العلاقة المذكورة:«الحمد لله وحده ولا يدوم إلا ملكه وبعد، فمن الفقير المحتاج إلى ربه وشيخه أحمد بن عَيْدَّ سلام أيُّ سلام. موجبُه أني عبد ما دمت حيا، أنا ومن معي، ولا أخالفك في شيء كبيرا كان أو صغيرا، وأفوض لك أمري في كل شيء من أموري وافعل ما شئت في. وهذا عامٌّ في كل زمان ومكان وهذا الأمر الذي نحن الآن فيه. وبلغنا ما بلغنا من تشنيع الناس ما في جهتي فيه غير حق، والله مطلع على ذلك، والدليل على هذا أني، أيها الشيخ، لا أخالفك في شيء واقض بما شئت، لا حرج عليك ولا نقض. وبعد هذا فإني مرسل بما شئت في شأن اتْرارزَ وأطلب منك أن تطلب لي الخير من اتْرارزَ وغيرهم. ولا أطلب إلا الخير أبدا من الضعيف والقوي، وأرجو من الله أن يعطيني ما طلبت ولا أقبل إلا أن تقبض لي الخير منهم بما شئت أنت وأكرهه أنا والسلام. محمد باب وأنا شاهد على هذا كله».[33]

وتتويجالتوجُّهه هذا، شارك الأمير أحمد بن عيدَّه في مؤتمر تندوجه الذي نظمه الشيخ سيديَ الكبير سنة 1856م، سعيا إلى توحيد الجهود ضد الفرنسيين ونصرة لأمير الترارزة محمد الحبيب في حروبه معهم. وقد أرسل أحمد بن عَيْدَّهوحدات من قومه للمساهمة في تحقيق الهدف المذكور.

ورغم اختلاف وجهتي نظرهما، أحيانا، حول الطريق الأنسب للمعاملة مع المستعمر الفرنسي، إلا أن الشيخ سيديَ بابَه والأمير سيد احمد بن أحمد بن عيدَّه ظلت تربطهما علاقات متينة.وقد ذكر الضابط الفرنسي المترجم بول مارتي طرفا من ذلك، حيث يقول:«بعد اعتقاله وسَجنه بداكار... بدأ الأمير الشابُّ يتألم من وضعهومستقبله الغامض، فبذل الشيخُ سيديَ جهودا لدعمه معنويا وماديا. فكان، مدفوعا بالحس الواقعي، من أوائل الذين نصحوا بإعادته على إمارة آدرار».[34]

وقد سبَق في الحلقة السابعة من هذه السلسلة الحديث عن رحلة الشيخ سيديَ بابَه إلى آدْرار ودخوله مدينةَ أطارْ في الثالث من شهر يونيو 1909م، بعد ستة أشهرمن دخول القوات الفرنسية المدينةَ نفسَها يومَ 9 يناير 1909، مع ذكر لبعض الشُّبهات التي أثيرتمؤخرا حول الموضوع.

خاتمة:

إلى جانب الرغبة الطبيعية لكل أمير وعالم وقائد في المحافظة على الاستقلال وحرية التصرف وتسجيل البطولات ومقارعة المستعمر الكافر والجهاد في سبيل الله... توجد دائما ظروف سياسية ومصالح بشرية واستراتيجية واعتبارات داخلية، لا يتأتى إهمالها للباحث في التاريخ السياسي للبشرية، بما في ذلك التاريخ الإسلامينفسه، من فجره إلى اليوم.

وغنيٌّ عن الذكر أن المستعمر الأوربي احتل جميع البلدان الإفريقية، من نيجيريا (173,6 مليون نسمة) إلى موريتانيا (3 ملايين نسمة)، وهو الذي صنعها وخطط حدودها وقسم كلا منها إلى ولايات ومقاطعات، ونصَّب عليها، بعد منحها الاستقلال، رؤساءَ ونُخَبا ارتضاهم. وعندما قامت فرنسا بتنظيم استفتاء "لا أو نعم" داخل مستعمراتها الإفريقية، أجابت كلها بـ "لا" للاستقلال، ما عدا غينيا شيخو توري.إنها حقائق غير محبَّبة، خصوصا في عصر الاستقلال الرسمي والسيادة النظرية، إلا أنه من غير المحبَّب أيضا أن يدفعنا الحماس البدائي و"المراهقة التاريخية"إلى محاولة بناء نسق تاريخي وفكري أعرج ومتناقض مع الوقائع المعلومة والموثَّقة.

صحيح أن الدول والشعوب تحتاج إلى أساطير مؤسِّسة، لكنها تحتاج أيضا إلى حقائق مؤسِّسة، وتحتاج أكثر من ذلك كلِّه إلى أفكار جامعة متفق عليها بين جميع مكونات المجتمع.

إن الأكثرية الساحقة من قادة وعامة الشعب الموريتاني هادنت الفرنسيين؛ فكان  يذهب من كل إمارة أحد أعيانها، أميرا أو عالما أو شيخا، بمفرده أو مصحوبا بجماعة قليلة، تاركا وراءه إمارة بأكملها خاضعة للفرنسيين ومتعاملة معهم... ثم يعود، في الغالب، ويهادن ويطبِّع. أما الطبقات الغارمة والمسحوقة فقد كان طموحها الأسمى أن يحظوا بأدنى مستوى من حقوق ومعاملة البشر، وأن يحصلوا على نظام يحميهم من تلك الممارسات الرهيبة المدوَّنة في حوليات المدن وكتُب التاريخ ونوازل المداراة ووثائق النخاسة والفداءات ومراسلات وأشعار العلماء... مع أن كبار الأمراء وشرفاءهم لم يدخروا جهدا في محاربة الفوضى والظلم وتحقيق العدل وإقامة الدين، قبل أن تدخل إمارات البلاد في موجة من الضعف والهشاشة والتفكك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

للمهادنة تاريخ وتراث أصيل وغني، كما للممانعة تاريخ وتراث أصيل وغني بدأ بعقود قبل احتلال البلاد رسميا من قِبَل الفرنسيين أواخرَ سنة 1902م. فهل من المناسب والمقبول في آداب الوطنية والتعايش الأخوي والموضوعية أن تتمادى وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية في إهمال حقائق معلومة وراسخة تتعلق بوجود أكثرية شعبية ونخبوية ساحقة عاهدت المستعمر بناء على مسوغات شرعية وواقعية مستنيرة ودقيقة، حاملةًمعها، في الوقت ذاتِه، رؤى ومشروعات سياسية وأمنية ومجتمعية واضحة وذات نتائج حاسمة في إحلال السلم وتحقيق مشروع الدولة المخلَّد استقلالُها في طاولات نوفمبر المكرورة؟إنه خطأ فادح ومُضِر. وأول متضرّر منه هو المقاومة الحقيقية وتاريخها وأبطالها الصُّدُق.

يتواصل بحول الله.

 

[1]- كثيرا ما تتم في هذه السلسلة مراعاة النطق المحلي في كتابة أسماء الشخصيات المشهورة.

[2]- عبد الودود بن انتهاه الشمسدي، المصدر السابق نفسُه، أحداث 1324.

[3]- غاستون دو فور، تاريخ العمليات العسكرية في موريتانيا، تعريب وتعليق المقدم محمد المختار ولد محمد ولد بيَّه، مكتبة القرنين 15/21 للنشر والتوزيع، نواكشوط - موريتانيا، ط11، 2012، ص 99.

[4]- Gillier (commandant breveté), La pénétration en Mauritanie: découverte, explorations, conquête, la police du désert et la pacification définitive, P. Geuthner, 1926, p. 296-297.

[5]- انظر مقدمة الحلقة الأولى من هذه السلسلة.

[6]-Pierre Bonte, L’émirat de l’Adrar mauritanien, Harim, compétition et protection dans une société tribale saharienne, édition Karthala, 2008, p38.

[7]-Pierre Bonte, op cit , p.50.

[8]- هارون بن الشيخ سيديَ، كتاب الأخبار، الجزء المتعلق بيحيى بن عثمان، قيْدَ التحقيق والنشر.

[9]-عُيّن إيمليو بونيلي سنة 1885أولَ مفوض ملكي إسباني بإقليم وادي الذهب. وكان عقَد قبل ذلك بسنةعدة اتفاقيات مع شيوخ قبائل المنطقة، تمهيدا لإخضاع الإقليم، رسميا، للحماية الإسبانية 26 دجنبر من السنة نفسِها. وقد وُقِّعت إحدى الاتفاقيات المذكورة في الشهر نفسِه (نوفمبر 1884) الذي هجَمت فيه مجموعة من سكان المنطقة على مركز بالداخلة يحمل اسم بونيلي، فكان ذلك سببا في تأليف الشيخ العلامة ماء العينين رسالته المشهورة: "هداية من حارا في أمر النصارى" ردا على منتقدي الهجوم ودفاعا عن العملية. وكان بونيلي قد كُلِّف، قبل ذلك بحمل هدية رمزية تمثلت في خنجر عربي من الذهب والفولاذيحمل كتابة عربية وهدايا أخرى تكريمية إلى الشيخ ماء العينين، بناءً على أمر ملكي صادر يوم 13 إبريل 1893 وردا على إطلاق الشيخ رهائن إسبان في شهر مارس من السنة نفسِهادون مقابل مادي. لكنْ، ولأسباب جيوسياسية وشخصية مذكورة في تقارير ومحاضر رسمية متفرقة، لم يستطع بونيلي إيصال تلك الهدايا إلى الشيخ إلا في سنة 1897م، حيث أعلن الشيخ شكره وخضوعه لإسبانيا... (قد يكون من الأنسب إصدار  دراسة أو سلسلة مقالات أخرى حول الوجود الإسباني في الصحراء، نظرا للارتباط التاريخي والاجتماعي والفكري بين مختلِف مناطق بلاد البيضان).

يقول الكاتب المغربي محمد دحمان: «تعرَّف إيمليو بونيلي على المغرب منذ طفولته وخبَرَ لغة البلد وأهلها، ولما تسلح بالعلم والمعرفة عاد ثانية إلى المغرب في صفة تاجر وعسكري. مكنه وضعه الجديد من رفع تقرير عن الوضع في الصحراء إلى الحكومة الإسبانية... بعد ذلك، عاد الى الداخلة مفوضا ساميا، فعمل على استقطاب القبائل والأعيان. ويعتبر أيضا من أهم من جمعوا معلومات وصفية حول صحراء وادي الذهب. ويذكر أن الغاية من رحلته إلى تلك الأراضي القاحلة، هو ضمان استغلال تلك المخازن، وفتح أسواق جديدة للمنتوجات الإسبانية... حثَّ على التنقيب عن الماء وحفر الآبار، وإحداث "قوة مسلحة لحماية وضمان الممارسة التجارية”، واحترام الديانة الاسلامية... كما أوصى بضرورة تكوين الضباط المتجهين لهذه المنطقة (الإلمام باللغة والأعراف)، مع ضرورة فتح علاقات متينة مع الأشراف بالمنطقة للتأثير على السكان...وظف بونللي التجارة للدعاية السياسية لبلده إسبانيا، مؤكدا على ضرورة مد يد العون لهذه القبائل تفاديا لقدوم قوة أخرى تحرم إسبانيا من جزر الكناري... وأوصى باحترام الديانة الإسلامية... منبها إلى أهمية دراسة الخصوصيات الثقافية للصحراء تجنبا لمخاطر مفترضة، مع ضرورة الجمع بين العنف والتسامح، والقهر والملاطفة، والسلطة والحرية، تفاديا للفوضى... مع ضرورة العمل على استقطاب الأعيان والوجهاء تيسيرا للتوغل في الصحراء». (انظر محمد دحمان، الساقية الحمراء ووادي الذهب في الكتابات الإسبانية، الرباط 2014، أولى فقرات الكتاب).

[10]- Bonelli, «Nuevos territorios españoles de la costa del Sáhara», (Conferencia 07 de abril 1885), Boletin de la Sociedad Geogrofica de Madrid, XVIII, Nos 5-6, mayo-junio de 1885, p. 333-351.

[11]- Conferencia dada por el Señor don Julio Cervera en la Reunión Ordinaria del 2 nov. 1886, Sociedad Geográfica de Madrid, Madrid 1887, tomo XXII, p. 17-18.

[12]- LOS TRATADOS DE IYIL, Boletín de la Sociedad Geográfica de Madrid TOMO XXXIII - 1892 Julio, p. 80-81-82.

وانظر أيضا: - الطالب اخيار بن الشيخ مامينا، الشيخ ماء العينين "علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوربي"، ج2، ط2، 2011، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، هامش ص 19.

[13]-Pierre Bonte, op cit ,p.450.

[14]- هكذا جاء في النسخة العربية، بينما جاء في النسخة الفرنسية:

«La France s’engage à ne pas intervenir dans les affaires intérieures de l’Adrarr…».

[15]- مخطوط بمكتبة د. محمد الأمين ولد سيدي بابا. وانظر أيضا: بيير بونت، المرجع السابق، ص 479.

[16]- بيير بونت، المصدر السابق نفسه، ص 482. وهارون بن الشيخ سيديَ، نقلا من يوميات محمدو با، مترجم الإدارة الفرنسية، مخطوط بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[17]- عبد الودود بن أحمد مولود بن انتهاه الشمسدي الأطاري، نيل الأوطار في الغامض من الحروب والأخبار، نسخة مخطوطة من الكتاب.

[18]-Pierre Bonte, op cit ,p. 408-409.

[19]- انظر الحلقة 19 من هذه السلسلة والمخصصة لإمارة الترارزة.

[20]-Pierre Bonte, op cit ,p.496.

[21]-نسخة من الرسالة بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت (الوثائق الرقمية).

[22]- نسخة أصلية من الرسالة بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت (الوثائق الرقمية).

[23]- نسخة من الرسالة بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت (الوثائق الرقمية).

[24]- انظر الحلقتي 10 و12 من هذه السلسلة، والمخصصتين لإمارتي البراكنة وإداوعيش.

[25]- نسخة أصلية من الرسالة بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت (الوثائق الرقمية).

[26]-Pierre Bonte, op cit ,p.421.

[27]- تقرير ملحق بشجرة أنساب تم إعداداه من طرف الإدارة الاستعمارية – مكتبةأهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت (وثائق الإدارة الاستعمارية).

[28]-Pierre Bonte, op cit ,p.497.

[29]- نسخة من الرسالة بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت (الوثائق الرقمية).

[30]-Pierre Bonte, op cit ,p.418.

[31]- دوتوه لويسكي، الغزوات على آدرار، روفيسك، مطبعة الحكومة العامة 1942، ترجمة محمد فاضل ولد اجيه، ص 54-61.

[32]- عبد الودود بن انتهاه، المرجع السابق نفسُه.

[33]- نسخة أصلية من الرسالة في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت. (الوثائق الرقمية).

[34]- PAUL MARTY,  CHEIKH SIDÏA - LES FADELÏA - LES IDA OU ALI, PARIS, ERNEST LEROUX, ÉDITEUR 28, p. 68.وانظر أيضا ترجمة الدكتور البكاي ولد عبدالمالك، للكتاب، ص 89،