كيف واجه الرئيس المختار ولد داداه اليمين واليسار وإيديولوجيا القبيلة في بتلميت؟

أحد, 2019/05/26 - 00:06
د. أحمد ولد المصطف: أستاذ جامعي

يهتم هذا المقال ببعض ملامح صراع نظام الرئيس الأسبق المختار ولد داداه منذ 1963 وحتى سنة 1978 مع بعض وجوه النخبة السياسية في بتلميت، متمثلة في شخصيتين بارزتين طبعتا ببصماتهما المراحل الأولى من استقلال الدولة الموريتانية، وهما رئيس الجمعية الوطنية الأسبق وسفيرنا لدى الأمم المتحدة، الراحل سليمان ولد الشيخ سيديا (1924 ـ 1999)، والوزير السابق والسياسي، محمد ولد الشيخ ولد أحمد محمود، المعروف بمحمد ولد الشيخ (1928 ـ 2013). كما يتعرض الموضوع الحالي إلى القبيلة كأداة يمكن توظيفها في أي صراع سياسي والجدل بخصوص بعض المواضيع المرتبطة بها في تلك الفترة.

 

فمنذ الاستقلال، بدأ الرئيس المختار (1924 ـ 2003) يغير من خطابه تجاه القوى التقليدية التي كانت مهيمنة على القرار السياسي ومحاولة التخلص من قبضتها بشكل تدريجي. ففي خطابه في المؤتمر التأسيسي لحزب الشعب، بعد حل حزب التجمع الموريتاني PRM، والمنعقد ما بين 25 ـ 30 ديسمبر 1961 قال الرئيس: "...نحتاج إلى حزب ديمقراطي، حزب جماهيري يأخذ فيه كل الموريتانيين مواقعهم، دون اعتبار للأصل أو الطبقة أو للفئة العمرية. حزب يكون شغله الشاغل إلغاء كافة أشكال التمييز والقضاء على الجهوية والقبلية بغية تحقيق الوحدة الوطنية".

 

لكن هذا الصراع، في شقه المتعلق بالزعامات التقليدية، لم يظهر للعيان إلا بعد إقالة سليمان ولد الشيخ سيديا من رئاسة الجمعية الوطنية في 14 نوفمبر 1963 إثر خلاف مع الرئيس المختار حول الاستقلالية المالية لهذه الهيئة البرلمانية.

 

كان من أهم قرارات مؤتمر حزب الشعب الاستثنائي المنظم بكيهيدي في 28 ـ 31 يناير 1964 على مستوى الإصلاح الداخلي للحزب، تبنيه إنشاء لائحة وطنية للنواب ومجانية مأمورية النائب البرلماني وإنشاء مبدأ الاستقالة على ورقة بيضاء، إلخ.

 

لم تحظ قرارات المؤتمر المذكور بإجماع النواب، إذ رفض كل من رئيسي الجمعية الوطنية السابقين، سليمان ولد الشيخ سيديا وسيد المختار ولد يحيى انجاي الاستقالة على ورقة بيضاء وهو ما حمل المكتب السياسي الوطني على طردهما المؤقت من الحزب في مارس 1964. لقد دفعهما هذا القرار إلى إنشاء حزب معارض هو "الجبهة الوطنية الديمقراطية" مع الوزير السابق بوياغي ولد عابدين. تم حل هذا الحزب بسرعة من قبل وزير الداخلية. في نفس اليوم، أنشأ المعنيون حزبا سياسيا آخر هو: الحزب الديمقراطي الموريتاني والذي رفض وزير الداخلية تسليم وصل اعتراف به، بحجة أنه يعيد تشكيل حزب تم حظره من قبل.

 

ولعل وصول موفد حزب الشعب، الوزير وان بيران، إلى بتلميت في مطلع 1964 على رأس بعثة من الحزب المذكور لتجديد الانتساب بعد مؤتمر كيهيدي السالف الذكر والاستقبال الفاتر والساخر الذي حظي به والذي كان يقف وراءه رئيس الجمعية الوطنية السابق، بحسب المدير العام للأمن الوطني السابق، يحي ولد عبدي، كما ورد في مذكراته، الذي كان حينها يعمل في معهد بتلميت ويتحالف مع الشيخ سليمان، لدليل على توتر هذه العلاقة بين النظام وهذا الأخير في تلك الحقبة تحديدا.

 

وفي 12 يناير 1965 قامت الجمعية الوطنية، بإجماع النواب الذين حضروا، بمراجعة المادة 9 من الدستور، بإقرارها بأنه، من الآن فصاعدا، سيصبح حزب الشعب الموريتاني الحزب الوحيد للدولة.

 

كان تبرير ذلك القرار هو "الحيلولة دون قيام قوى النفور من المركز: العرقية والقبلية والجهوية بعرقلة قيام الوحدة الوطنية".

 

أما بخصوص الصراع مع اليسار الثوري على مستوى بتلميت، فيبدو أن الرئيس قد أجله لكون الممثل الأبرز لهذا الاتجاه، محمد ولد الشيخ، كان أكثر من ضروري للمشروع السياسي للرئيس المختار، وبالأخص خلال السنوات الأولى من عمر الدولة الموريتانية المستقلة. كانت أبرز المحطات السياسية للرجل مشاركته في تأسيس "جمعية الشباب الموريتاني" سنة 1955، ثم مشاركته في العمل النقابي ضمن نقابة معلمي غرب إفريقيا، إضافة إلى توليه لبعض المسؤوليات الإدارية في العديد من مناطق البلد قبيل الاستقلال. بعد الاستقلال، تولى حقيبة السكرتير المكلف بالدفاع بالإضافة إلى منصب وزير الخارجية ابتداء من سنة 1965. ثم إن الوزير محمد ولد الشيخ كان ذا تأثير سياسي كبير، حيث اعْتُبِرَ "مُنَظِّرَ" حزب الشعب والمستشار النافذ للرئيس في العديد من الملفات الوطنية الهامة.

 

بعد اندلاع أحداث 8 ـ 9 فبراير 1966 العرقية والتي كانت مقدمتها بيان الـ "19" الصادر في 11 يناير من نفس السنة المتضمن مطالب سياسية تقدم بها أطر المكونات الأثنية غير الناطقة بالعربية، لم يكن محمد ولد الشيخ متحمسا للتعامل الأمني مع الاضطرابات، واتهم حينها بالتعاطف مع قادة هذا الحراك.

 

بعد عودة الرئيس المختار من زيارة كان يقومها بها لجمهورية مالي في الفترة من 4 إلى 9 فبراير 1966 أقدم على إقالة خمسة من أعضاء الحكومة هم: محمد ولد الشيخ، أحمد ولد محمد صالح، أليمان كان، يحيى ولد منكوس وبمب ولد اليزيد، مبررا إقالته لهؤلاء الوزراء بـ"الصراع الإيديولوجي الذي كان قائما بين محمد ولد الشيخ "الثوري" وأحمد ولد محمد صالح "المحافظ". ثم إن البعض في الأوساط الحكومية والأمنية سربوا شائعة مفادها أن الوزير محمد ولد الشيخ كان يعتزم الإطاحة بالرئيس المختار، نظرا لعلاقاته الواسعة في أجهزة الدولة. بعد إبعاد محمد ولد الشيخ، اعتزل هذا الأخير العمل السياسي، على الأقل الميداني، واقتصر على التأليف.

 

بعد إقالة محمد ولد الشيخ بقليل، وفي 5 ابريل سنة 1966 سُمِحَ لسليمان ولد الشيخ سيديا بالالتحاق من جديد بحزب الشعب الموريتاني، ليعين أمينا فيدراليا للحزب عن المنطقة السادسة (الترارزة) سنة 1968.

 

ومع أن الراحل سليمان ولد الشيخ سيديا كان سياسيا محنكا ومعارضا في أحيان كثيرة لنظام الرئيس المختار، إلا أن مكانته الاجتماعية كشيخ تقليدي ربما أملت عليه بعض المرونة والبراغماتية إزاء نظام المختار، في حين يبدو أن معارضة محمد ولد الشيخ للنظام كانت تتسم بالراديكالية.

 

أما جهود نظام الرئيس المختار ولد داداه من أجل تعزيز حضور الدولة في الأوساط الريفية النائية على مستوى بتلميت في مسعاه لتحجيم دور الزعامات القبلية، فقد تمثلت في اتخاذ حزمة من الإجراءات الإدارية، يرمي من خلالها، على المدى القريب على الأقل، إلى ربط مخيمات البدو مباشرة بالإدارة، وذلك بإنشاء مركز أڭلال فاي الإداري المتنقل في مطلع ستينات القرن الماضي. علاوة على ذلك، سهلت الدولة فتح بعض المدارس العمومية لتمكين أطفال هذه المخيمات التي تنتجع شمال بتلميت من تلقي تعليم حديث، في محاولة، على ما يبدو، للحد من نفوذ القوى التقليدية في هذه الأوساط، على المديين المتوسط و البعيد. وعلى الرغم من أن هذا المركز الإداري لم يستمر طويلا، فإن بعض المدارس التي فتحت في تلك الفترة قد ساهمت في إدخال التعليم المدرسي العمومي، على مستوى المرحلة الابتدائية، في العديد من تجمعات البدو الرحل في المنطقة المذكورة.

توازيا مع تلك الإجراءات، ظل النظام في الفترة المذكورة يراقب عن كثب الحراك القبلي، الظاهر والخفي، وبالأخص بعد العثور على وثيقة بداية سنة 1967 قد يرجع تاريخها للعقد الثاني من القرن الثامن عشر تضيف معلومات جديدة على الرواية الشفهية المتداولة بخصوص الروابط بين بعض مكونات الاتحادية (الكونفدرالية) القبلية التي ينحدر منها الرئيس المختار. ومع أن آراء النخبة المتعلمة داخل المجموعة المذكورة انقسمت إزاء محتوى هذه الوثيقة بين التأييد المتحمس والتحفظ الحذر، إلا أن الأهم من كل ذلك أن الرئيس، ووفق بعض الروايات، قد اهتم بالموضوع بشكل خاص لدرجة أنه قد يكون وراء استصدار الرأي الفقهي الداعي إلى إبقاء الوضع على ما كان عليه قبل ظهور الوثيقة المذكورة.

وتأسيسا على ذلك، ربما ساور الرئيس المختار القلق من استغلال تداعيات النص المذكور من طرف بعض خصومه المحليين، المحافظين واليساريين على حد سواء، لإعادة طرح الخطاب القبلي من جديد وتوظيف القبيلة كمنبر وأداة سياسية فعالة في مواجهة خطاب حزب الشعب المناهض لمثل هذا الطرح.

فالردود العلمية المكتوبة على هذه الوثيقة تعكس رؤى و تجاذبات و انقسام جزء من النخبة المنحدرة من الأوساط الاجتماعية التي كانت تقود القبيلة أو تلعب فيها دورا مؤثرا إلى جناحين: أحدهما يريد إحياء القبيلة وتفعيل دورها السياسي والاجتماعي في وجه نظام الحزب الواحد، والآخر يقف في وجه هذا التوجه خشية استغلاله ضد الدولة الناشئة ونظامها السياسي القائم.  

فمن ضمن الشخصيات السياسية التي كان بمقدورها توظيف القبيلة ضد النظام في تلك الفترة يمكن ذكر سليمان ولد الشيخ سيديا، حيث كان الرجل الأبرز فيها بعد رحيل أخيه الشيخ عبدُ الله ولد الشيخ سيديا سنة 1964. أما الشخصية الأخرى، فهي محمد ولد الشيخ الذي ينحدر من أسرة مؤثرة في محيطها الاجتماعي الخاص والعام؛ ومع أنه طيلة حياته المهنية والنضالية ومشواره في الحكومة كان ينظر إليه على أنه يساري ثوري، لكن بعد إبعاده من الحكومة قام بمراجعات فكرية شملت، من بين أمور أخرى، تبنيه ضرورة العودة إلى الوسط الريفي والاندماج فيه من جديد لاستخدامه في المشروع الثوري الذي يناضل من أجله. يقول حامد الموريتاني، وهو اسمه المستعار، بهذا الخصوص في كتابه L’Indépendance néocoloniale الصادر سنة 1974 : "... الطريق الوحيد للعودة يتمثل في فهم الرجوع إلى هذا الوسط الريفي الأصيل والاندماج فيه وتبنيه من جديد [... ] واستئناف الروابط مع عالم اقْتُلِعْنَا منه لا شعوريا لصالح الأجنبي والذي لا يزال عالمنا، على الأقل في بعده العاطفي الهام...".

بعد انقلاب 10 يوليو 1978 الذي أطاح بنظام بالرئيس المختار ولد داداه، أنشأت اللجنة العسكرية للخلاص الوطني في 29 مارس 1979 مجلسا استشاريا يتكون من 98 عضوا، و قد ضم كلا من محمد ولد الشيخ وسليمان ولد الشيخ سيديا ممثلين على ما يبدو عن مقاطعة بتلميت، وهو ما قد يفهم على أن دوافعه الأساسية معارضتهما لنظام الرئيس المطاح به. لا نعلم إن كان المعنيان قد قبلا بهذا التعيين أم لا، لكننا نعلم أن هذا المجلس لم يعمر طويلا بفعل خلافات أعضاء اللجنة العسكرية المذكورة بخصوص دوره وتشكيلته.

من جهة أخرى، ذكر الرئيس السابق محمد خونا ولد هيدالة في مذكراته، وهو من القيادات البارزة لانقلاب 1978 أن الراحل سليمان ولد الشيخ سيديا تعاطف معه وساعده، عبر وسيط، بعد نقله من سجن كيهيدي إلى كيفه بعد الإطاحة به نهاية 1984.

لقد تتبعنا مسار العلاقات بين الرئيس المختار والشخصيتين القياديتين، سليمان ولد الشيخ سيديا ومحمد ولد الشيخ وكذا أسباب الجدل حول محاولات إعادة طرح موضوع القبيلة ورهاناتها السياسية.

فالرئيس كان يحمل مشروع بناء دولة في بداية نشأتها وتواجه تحديات جمة، داخلية وخارجية، وكان شغله الشاغل تعزيز مركزية سلطتها في مواجهة الدعوات الأثنية والجهوية والقبلية، في حين أن الراحل سليمان كان ديمقراطيا يرى بضرورة إقامة دولة القانون التي تضمن التعددية السياسية والفصل بين السلطات، وقد دافع عن موقفه بجرأة. أما محمد ولد الشيخ فقد ظل، بعد خروجه من الحكومة، متمسكا بخطه اليساري الثوري وحتى وفاته، مع أنه قام بمراجعات فكرية على مواقفه، على المستوى التكتيكي على الأقل.

لقد ظل هذا الصراع بين الرئيس الأسبق وهاتين الشخصيتين صراعا سياسيا سلميا، لم يتسبب في عنف أو اضطرابات أو مشاجرات في مدينة بتلميت أو خارجها، بل ظل في جوهره وشكله صراع الكبار الحريصين على المصلحة العامة، وقد يكون ذلك هو الدرس الأهم الذي يجب على النخب السياسة اليوم في بتلميت أن تستلهم معانيه والدروس التي قد تستخلص منه.

أخيرا، نود التأكيد على الموقف الذي طالما تبنيناه وهو أن القبلية والفئوية والجهوية والطائفية واستغلال الانتماء الأثني لا يمكنها أن تنسجم مع مفهوم الدولة الجامعة والسياسات التي تتوخى تحقيق المصلحة العامة للبلد التي تتطلب تفكيرا جادا وعميقا يفهم البنيات الاجتماعية التقليدية وديناميكياتها، لكنه يتجاوزها.