التراث الثقافي غير المادي: عامل حفاظ على التعددية الثقافية وتقارب الشعوب

جمعة, 2019/04/26 - 23:26
د. محمد الأمين ولد الكتاب: أستاذ جامعي وباحث

لقد ساد الاعتقاد لردح طويل من الزمن لدى مثقفي وقادة رأي الأمم الغربية المهيمنة عالميا أن البشرية تنقسم إلى شعوب متقدمة، راقية ومتحضرة، وشعوب بدائية، بربرية، موغلة في الجهل والهمجية. ولعل أشهر من قال بهذا الرأي هو المؤرخ اليوناني هيرودوت الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد.

ولم يول المثقفون الغربيون اهتماما كبيرا بمن صنفوها شعوبا بدائية، إلا خلال القرن التاسع عشر عندما بدأت كبريات الدول الغربية تستعد لبسط نفوذها الاستعماري على معظم بلدان العالم. عندئذ وعندئذ فقط، ظهر اهتمام متزايد بعلوم (l’ethnographie) الاثنوغرافيا والانثروبولوجيا التي كان موضوعها الشعوب الافريقية والأسيوية وغيرها من الشعوب الأخرى التي كان التخطيط جاريا لغزوها واستعمارها. وكان الهدف الأساسي من إجراء هذه الدراسات وتطوير هذه العلوم المنصبة في الأساس على الشعوب الآنفة الذكر، هو التعرف على عاداتها وتقاليدها وأنماط حياتها وعقلياتها، وصولا إلى تسهيل أحكام السيطرة عليها واستتباعها واستغلال خيراتها واستنزاف مقدراتها.

ومن جهة أخرى، قد كان الاعتقاد سائدا كذلك، لدى معظم النخب المثقفة وقادة الفكر عبر العالم، أن الثقافة الجديرة بالعناية والتي تستحق كامل الاهتمام إنما هي الثقافة العالمة، أو ما يسمى بالثقافة النبيلة، المنحصرة في الآداب والفلسفة والعلوم الدقيقة والمعارف الدينية والفلسفية وما شاكلها. وسوى ذلك لا يعدو كونه معتقدات ساذجة وممارسات ومسلكيات فلكلورية غير جديرة باهتمام الدارسين وعناية الباحثين والمنشغلين بالشأن الثقافي والعلمي الجاد.

وكان أن ظهرت لاحقا على الساحة الدولية ملابسات، وبرزت عوامل متعددة الأبعاد، قادت تدريجيا، إلى نشوء وعي متزايد بضرورة توسيع وتعميق مفهوم الثقافة ليشمل حزمة من الأبعاد تتطلبها مقتضيات التطور الحتمي، العقلاني والعادل لحياة الأمم في جو من الوئام والانسجام والتعايش والتفاهم.

وبعبارة أخرى، ظهرت ضرورة إعادة تعريف الثقافة، واتضحت حتمية تحديد أكثر دقة  لمكوناتها وملامحها وأهدافها ومراميها.

ومن تجليات التوسع الرأسي والأفقي لمفهوم الثقافة، بروز ما بات يعرف اليوم بالتراث الثقافي غير المادي ( Intengible cultural heritage) موضوع اهتمامنا في هذا المقام. ولعل من الأهمية بمكان هنا، تعريف التراث الثقافي غير المادي والإشارة ولو بإيجاز إلى أسباب بلورته وبواعث ظهوره وتطوره والأهداف المتوخاة منه.

ماهية التراث غير المادي

لقد عرفت منظمة اليونسكو خلال اجتماع ضم 78 دولة عقد في 20 يونيو 2007، التراث غير المادي أو التراث الحي للإنسانية، و الذي يعتبر المصدر الرئيسي للتنوع الثقافي المميز للمجموعة البشرية، عرفته على أنه يتمثل أساسا في المعتقدات والتعابير الشفهية والجسمية والطقوس والمناسبات الاحتفالية والعروض ومختلف أنواع الفرجة والترفيه وكذا المعارف الشعبية والمهارات المتصلة بشتى أنواع الصناعات الحرفية الاصطناعية المرتبطة بها، فضلا عن مختلف الممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون والغيبيات ومنظومات المعتقدان من خلال تقاليد ومدارك وتمثلات الشعوب الأصلية.

بواعث الاهتمام الخاص بالتراث غير المادي

تكمن وراء العناية بالتراث غير المادي الذي نال مؤخرا قسطا كبيرا من اهتمام المنشغلين بالشأن الثقافي، مجموعة من البواعث منها السياسية والاقتصادية والسوسيوثقافية.

أ. البواعث السياسية

لقد قادت السيطرة الاقتصادية والسياسية، والهيمنة الثقافية والتكنولوجية للبلدان الغربية المتنفذة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، إلى السعي الدؤوب إلى فرض لغاتها وثقافاتها وأنماط عيشها ومنظوماتها القيمية والأخلاقية ومسلكياتها الخاصة على بقية أمم العالم. وهذه هي إرهاصات ما أصبح يعرف اليوم بالعولمة. والتي هي في التحليل النهائي، تجسيد إرادة الأمم الغربية المهيمنة لابتلاع الخصائص الثقافية والحضارية للشعوب الأخرى، والعمل على طمس معالمها وتذويب قيمها، بغية صبها في قوالب غربية موحدة ومنمطة. الشيء الذي يشكل تهديدا مميتا للتنوع السوسيوثقافي والتعددية الثقافية والفنية والقيمية. ويمثل كذلك إفقارا لإمكانات العطاء المتنوع المتوفرة لدى المجموعات البشرية المختلفة، والتي تشكل روافد مغذية للحضارة الإنسانية المركبة والمتعددة الجوانب والمكونات. واستشعارا من شعوب العالم وقادة الرأي فيه بخطورة هذا التوجه. ولما قد يترتب عنه من تداعيات سلبية وأضرار جمة، وما يستبطنه من أهداف استراتيجية غير خافية على أحد، فقد تضافرت جهود شعوب العالم عبر منظمة اليونسكو من أجل الوقوف في وجه هذا النزوع الجامح إلى التنفذ.

وذلك من خلال العمل على تنمية وترقية ودعم وتعزيز رصيد التراث المادي وغير المادي الذي توارثته الشعوب عبر تاريخها، والذي تحرص على صيانته وديمومته، كونه يمثل حاضنة لقيمها ومثلها، ومستودعا لمقوماتها الحضارية المميزة.

وهذا ما يتوخاه إنشاء صندوق اليونسكو لدعم التراث غير المادي في البلدان التي تحتاج عون وإسناد هذا الصندوق الذي أشرنا إليه.

ب. البواعث الاقتصادية

لقد أضحى واريا للعيان، أن للتراث الثقافي غير المادي قيمة اقتصادية وإسهاما ملموسا في خلق وتنويع مصادر الدخل القومي وفي مواجهة البطالة. وهي عوامل يمكن توظيفها لخلق أنشطة مدرة للدخل، خليقة بالإسهام في قيام اقتصاد إبداعي، وصناعات ترفيهية، قد تلعب دورا هاما في الرفع من مستوى الدخل القومي.

ويتأتى ذلك من خلال توظيف ورسملة أنواع التعبير الفني والجسدي (الموسيقى، الغناء، الرقص...) وكذا توظيف إمكانات المسرح والسينماء ومختف الفنون التشكيلية وألعاب المجتمع وعروض الأزياء ومختلف الأنشطة والأداآت الفرجوية والترفيهية، التي تمثل هي الأخرى مصادر دخل معتبرة للأشخاص والجماعات والبلدان.

توظيف التراث الثقافي غير المادي لتقارب المجموعات والشعوب

لقد مكن ثراء وجاذبية وفرادة مختلف أشكال وتجليات التراث الثقافي غير المادي من توفير أرضية ملائمة، وخلق أجواء محفزة لمشاركة العديد من البلدان في تنظيم مهرجانات وملتقيات ومواسم محلية وإقليمية ودولية لافتة، تستقطب مئات بل آلاف المشاركين والزوار.

 وهكذا تقام سنويا في مدن العديد من البلدان في منطقتنا وفي غيرها فعاليات متنوعة  تستقطب مختلف الفاعلين في شتى أنواع الفنون ومختلف ألوان التراث غير المادي. يمكن أن نذكر منها على سبيل المثال لا الحسر:

- مهرجان السينماء لبلدان البحر الأبيض المتوسط بتطوان المغرب.

- مهرجان الفسباكو للسينماء الإفريقية بواغادوغو ببركينا فاسو.

- المهرجان السنوي للمدن التاريخية بموريتانيا.

- المهرجان الثقافي الإفريقي في الجزائر وغيرها..

وقد بات من المؤكد أن هكذا مهرجانات وما تشمله من فعاليات مختلفة توفر فرصا لتلاقي وتعارف وتثاقف الفاعلين في شتى مجالات الثقافة والخلق والإبداع، كما تسمح لهوات الفنون ورواد الابتكارات والتجديد في هذا المضمار، بتبادل التجارب والخبرات في مجالات اهتماماتهم.

وإن دل كل هذا على شيء، فإنما يدل، وبدون شك، على أن التراث غير المادي، قد أضحى اليوم أكثر من أي وقت مضى، عاملا قويا للتلاقي والتبادل بكل أشكاله وأبعاده ولمد جسور التواصل وتقوية أواصر الصداقة والتفاهم والوئام بين الأفراد والمجموعات، كما أنه يوفر طقسا ملائما وظروفا مواتية لإرساء قواعد الصداقة والتفاهم والحوار المثمر والبناء بين شعوب العالم.