العسكري والمدني: استراتيجية Fitting Room

أربعاء, 2019/04/24 - 15:12
د. الشيخ أحمد ولد البان: كاتب وباحث

العسكرية والمدنية بنيتان متناقضتان في المبادئ الحاكمة والقوانين المسيرة والمخرجات المطلوبة، يحكم العسكري مبدأ التراتبية ويسيره قانون الأوامر ويقاس نجاحه بمدى قدرته على الخضوع والإخضاع، الخضوع لمن يعلوه في الرتبة والإخضاع لمن هم دونه فيها، يعتبر نقاش الأوامر والتعليمات قبل تنفيذها خللا في الجندية يستحق صاحبه العقوبة البدنية، ويعوقه عن الترقي الوظيفي.

أما المدني فيحكمه مبدأ المساواة ويسيره قانون الحوار ويقاس نجاحه بمدى قدرته على إدارة الناس بالعلاقات الحسنة لا بالأوامر الملزمة، وتعتبر أضداد هذه الصفات خللا في الصفات القيادية له.

نظم في أكتوبر 2016 في الدوحة مؤتمر حول الجيش والسياسة، ومن الكلمات التي لفتت الانتباه وبقيت عالقة في الذهن قول أستاذ العلوم السياسية في جامعة تكساس زولتان براني "إن صفة الديمقراطية لا تتفق تماما مع طبيعة تنظيم الجيوش داخليا، وأن الجيش هو مؤسسة الدولة الوحيدة القادرة على تدمير الدولة"، وأقول أنا إن مؤسسة الجيش هي التي قامت بالتدمير فعلا على مر تاريخنا العربي بل والتاريخ كله، لأن منطق القوة الكامن في نسيجها الفكري والقانوني والتداولي هو منطق تدميري استبدالي، وليس منطقا بنائيا إصلاحيا.

الغريب أنه في الوقت الذي تسعى فيه الدول الديمقراطية ويدعو منظرو التحول الديمقراطي إلى منع الجيش من التصويت حتى لا يقترب من السياسة؛ نجد عندنا في موريتانيا من يدعو لإعادة إنتاج الحكم العسكري من خلال تشجيع قادته على تطبيق استراتيجية Fitting Room (تطلق Fitting Room على الغرفة التي تكون بمحلات بيع الملابس ليجرب فيها المتسوقون مدى ملاءمة قياسات وتصاميم الملابس لهم)، فتراهم يروجون لعسكري ما تزال أصداء التحية العسكرية تتردد في مسمعيه، وبالمناسبة فإن الحكم العسكري الـمُقَنَّع أخطر من الحكم العسكري السَّافر، لأن العسكري السَّافر يشعر بأنه يتحمل مسؤولية ما يقوم به بشكل مباشر، أما الآخر الذي يتقنع بعناوين الحكم المدني، فهو لا يشعر بالحرج، تماما مثل الذئب حينما أكل من طعام الأسد ومسح يديه الدسمتين على فم الخنزير، لينال العقوبة بدلا منه.

ليست العسكرية في الحقيقة مجرد بدلة رقطاء وقبعة تنحرف يمينا ونعلا خشنة فإذا خلعها المرء أصبح مدنيا، هو مدني من الناحية القانونية ولكنه عسكري في علم النفس وعلم الاجتماع وفي نظر العقول السليمة، وليست المدنية مجرد خلع لذلك الزي بدلتَه وخوذتَه ونعلَه، بل هما روح سارية وعقلية مُوَجّـِهَة تكونت عبر عقود عديدة، وكما أن المدني إذا التحق بالجيش يحتاج فترة تدريب قاسية، تستمر سنة وسنتين (تختلف الجيوش بحسب ذلك) لتقطعه مع القيم المدينة التي نشأ عليها، وتصله بالقيم العسكرية التي هو مقبل على فضائها، ثم يبدأ جنديا عاديا سالكا مسارا شاقا لا يرقى فيه درجة إلا بعد اختبار دقيق، هدفه التأكد من مدى تخَلُّصه من القيم المدنية ومدى تَـحَقُّقِه بالقيم العسكرية، وقد يصل سنَّ التقاعد قبل أن يصل رتبةَ قائد عسكري (ضابط أو عقيد أو جنرال).

وكما أن المدني يحتاج كل هذه المراحل المتدرجة والفترات الطويلة ليصبح قائدا عسكريا، كذلك يحتاج العسكري لفترة طويلة من العيش في كنف الحياة المدنية بدون نجوم أو نياشين، حتى يصبح مدني العقل والروح والقيم، ثم بعد ذلك عليه أن يبدأ بالتفكير في قيادة المدنيين سالكا السلم العادي، وهو سلم طويل، وقد يخترمه الموت بالهرم قبل أن يستحق قيادة المدنيين بأدوات مدنية، والغالب أن عسكرة المدني أصعب من تمدين العسكري، وذلك لقوة تكوينه وصرامة منهجه الذي تدَرَّبَ عليه، فلا يستطيع التخلص الكامل من عقليته العسكرية –إن استطاع- إلا بعد سنين بل عقودا.

أما أن تقول لي بأنه يصح في الأذهان أن يصبح المرء عسكريا صارما ويمسي مدنيا ديمقراطيا؛ فتلك بلقاء منبرية لا يعدلها إلا أن أقول لك: إن رجلا أمسى مدنيا ثم أصبح قائدا عسكريا ميدانيا، فهل ستصدقني! إن كلا القولين مجافٍ للمنطق والواقع، وإني وإياك إذا ذهبنا هذا المذهب فإننا أحد رجلين؛ إما أننا نؤمن بالطفرة ونكفر بالتراكم، وإما أننا نقول دون روية في النفس والتاريخ والواقع.

سيحدثك الحالمون عن زمن دولة المؤسسات، وأن الدول لم تعد على دين حكامها مدنيين ولا عسكريين، بل أصبحت على دين دساتيرها، وأن العسكري يمكن ترويضه بالقانون، بل هو –كما سمعنا- صاحب الفضل في أكثر موادنا القانونية أهمية، مادة المأموريات التي لم يترك مناوشتها والسعي لتغييرها حتى وثق من استمرار نهجه برفيق دربه، سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، وكأن مجرد الوقوف على منصة قصر المؤتمرات بدراعة بيضاء يَجُبُّ ما قبله، وينقل صاحبه من عسكري صارم إلى مدني ديمقراطي!

إن تجارب الجيش في إنتاج الدول الاستبدادية وإجهاض الأحلام الديمقراطية في العالم، وكذا الطبيعة الهشة للمجتمع الموريتاني وطبيعة تاريخ العلاقة بين الجيش الموريتاني والسياسة؛ تجعل أي تغيير لا يقوم على أساس إبعاده كليا عن السلطة هو تغيير محفوف بالمخاطر، لأنه لن يعدو كونه إعادة إنتاج وتجميل للحكم العسكري المستمر منذ 1978، وإن أي مدني مهما كانت سوابقه ومهما ستكون لواحقه هو خير وأزكى للتجربة الديمقراطية وللسير نحو الدولة المدنية، هذا إذا كنا نفكر بعيدا عن الأهواء الشخصية والمكاسب السياسية الذاتية، وهذا ما تقتضيه اللحظة الحاسمة والحساسة التي يمر بها وطننا المثخن جراحا بسبب الجيش والنخب المروجة له طمعا فيما عنده أو يأسا من جدوى مغالبته.

التاريخ والمنطق يقولان إن الدولة المدنية لن تخرج من الثكنة العسكرية حتى يلج الجمل في سم الخياط، وأن الصبر على الجهد المبذول في الابتعاد عن العسكر والصرامة في إبعادهم عن السياسة –وإن طال تشبثهم- خير من مبايعتهم على عهد هم ناقضوه، إن الدعوة لانتخاب جنرالات الجيش القاعدين أو المتقاعدين خيانة لتراكم الوعي الذي أصبح قاب قوس واحدة من الاكتمال، وظلم لمسيرة التضحيات الطويلة التي خاضها هذا الشعب من أجل حكم مدني، ولو صيغ ذلك في قوالب كأنها إنصاف، وهي في الحقيقة مجرد مناصفة أو مثالثة أو مرابعة لهذا الوطن الذي لم يوصله إلى هذه الحالة المزرية إلا العسكر المُعَسْكَر والعسكر الممدَّن.

هناك مغالطة فجة يقوم بها دعاة التقارب بين المدنيين والعسكريين في موريتانيا، توحي بأن المؤسسة العسكرية الموريتانية مستعدة للتنازل، ولكنها لا تجد من يمد لها يده من المدنيين، والواقع أن النخب السياسية المدنية قدمت للمؤسسة العسكرية رسائل طمأنة كثيرة، ولكن المؤسسة العسكرية انسجاما مع منطقها القائم على مبدإ الخضوع والإخضاع، ردت على تلك الرسائل بالرفض وأحيانا بالتحفظ المريب، فترشيح شخصيات قادمة من عمق المؤسسة العسكرية مثل محمد خونة بن هيداله وصالح ولد حننا وترسيم ولد باب أمين على قيادة المنتدى كان رسائل جلية من النخب السياسية المدنية بأن لا مشكلة مبدئية لديها مع أفراد الجيش، وإنما المشكلة هي مع تداخل الاختصاصات ودخول الجيش باعتباره مؤسسة ذات مكانة أكبر إلى معترك السياسة. كانت تلك هي رسائل المدنيين للجيش، فما هي الرسائل الجوابية التي رد بها الجيش على المدنيين؟

كانت الرسائل الجوابية الآتية من الجيش مشوهة ومرتبكة، وتمثلت في التكيف المحدود جدا ومجهول الدوافع بدعم الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، ولكن بعد فترة وجيزة جاءت الرسالة الجوابية الأصرح والأوضح هي الانقلاب عليه حين مارس أبسط صلاحياته المتمثلة في تغيير قادة وحدات عسكرية، فأي الفريقين إذن أحق أن يطالب بتقديم رسائل الطمأنة للآخر؟ أم أنكم تستبطنون قصور النخب العسكرية وعجزها، وبالتالي فهي معذورة لديكم إعذار القاصر تخويلا وتأهيلا!

الطريف أن بعض الداعين للالتحاق بمرشح العسكر من دعاة الديمقراطية والحرية يشعرون بأن هذه الكلمة (العسكري) تحمل دلالة غير إيجابية، فيحاولون إخضاعها لـ"غسيل دلالي"، وهم في ذلك يعترفون ضمنيا بأن صفات من يعلنون تزكيته غير قادرة على الانسجام داخل حقل التنظير الديمقراطي إلا بعد "إعادة التأهيل"، وهي عملية تحتاج قبل غسيل الدلالة غسيل التاريخ والتجربة، فليربعوا على أنفسهم فإن كلمة العسكري ستظل نقيضا للديمقراطي، لأنها في الحقيقة كذلك، والحقائق لا يطمسها الغبار العابر.

لا يعني كل ما سبق احتقار العسكري ولا اعتباره خطرا على المجتمع، بل الجيش أحد الأركان الرئيسة لأي دولة مثل العملة والأرض والشعب، ولكنه وضع للأمور في نصابها، فكما أن الأمن القومي للدول يكون مهددا إذا تولاه مدنيون لا خبرة عسكرية لهم، فإن الدولة المدنية والمكاسب الديمقراطية تكون مهددة إذا تولى شأنها عسكريون، فعسكري ضعيف خير في مجال الأمن والدفاع من أقوى المدنيين، ومدني ضعيف أوثق في السياسة من أقوى العساكر، وكل واحد من الاثنين مفيد ونافع ما لم يمد يده أو رجله إلى مجال اختصاص الآخر.

بقي أن أقول إن الجمع بين الحلم بالديمقراطية وبين الثقة في مدنيي Fitting Room من العسكر السابقين هو كالجمع بين النار والماء، لا يصح إلا في لحظات الوجد الهائلة (كأن بالنار ما بالماء من بلل**وأن بالماء ما بالنار من ضرم)، وتلك حالة لا تصلح للمفكرين وكبار الساسة، إنها حالة تختص بنا معاشر الشعراء وبالقوم من نخبة الصوفة الهداة.

وما يزال مسمار يدق في ذاكرتي يقول صداه المؤلم: كيف تطمع أن تهب رياح الديمقراطية من جهة مؤسسة تقول أدبياتها إن الروح الديمقراطية خلل في الاحتراف العسكري؟ بل كيف تحاول أن تقنعني بذلك؟