العبودية وسفه النخبة عند "البيظان"

سبت, 2018/03/03 - 18:28
اسماعيل الشيخ سيديا

في موريتانيا عرفت رجالا ونساء وأطفالا تم توزيعهم في التركة كعبيد لميت وميراث لميت؛ ثم تتحول ملكية رقابهم إلى أحياء؛ تماما مثل بقية عناصر الميراث؛ البقر والإبل والأراضي. وأحيانا لا يكون للميت من "الملك" سوى أولئك العبيد. وقد يكون العبيد "المُتَرّكون" أغنى من المالك الجديد والمالك المرحوم.

إنها مفارقات الفقه والاقتصاد والنظام الاجتماعي، حين تمتزج بالتصحر الفكري.

هو إذن واقع مشين وموروث مخل وجدنا عليه آباءنا - نحن "البيظان" قبل ظهور الدولة الوطنية - لم نستطع التخلي عنه طواعية ولم نقبل من يصحح لنا أخطاءنا وأخطاء آبائنا فيه.

ليس كل موروث بالضرورة قابلا للاستمرار، وليس كل موروث بالضرورة صحيحا؛ لكن الفرق بيننا وبين أسلافنا هو أنهم عاشوا زمانهم الذي كان فيه الاسترقاق رياضة وطنية، وكان العبيد بضاعة تباع وتشترى ثم تأخذ لبوس الشرع؛ لم تكن لديهم دولة وطنية ولا منظمات حقوقية ولا منتديات سياسية ولا ثقافية، لكنهم فعلوا هم الآخرون مالقوا عليه آباءهم.

أما نحن فمكرهون لا أبطال؛ ومتأخرون وأتم نظرا؛ عرفنا أشياء متلاحقة وحقائق دامغة في وقت واحد؛ جاءت فرنسا (القوة الاستعمارية) فكانت تأسيسا للدولة الحديثة بمن وما فيها ومالها وما عليها.

ثم دخل أبناؤنا المدارس وعلموا أن مساحات شاسعة من التفكير والتنوير والتدبير، انطبعت وتنطبع بين مجتمعنا والمجتمعات المتصدرة للعالم. كتاب تنويريون ومحامون وشعراء وفقهاء ومنظومات قيمية؛ من العالم الآخر تبين مكامن الوجع والخلل في مجتمعنا. تقول إننا على خطإ.

ثم ما لبث أبناء العبيد السابقين أنفسهم أن أماطوا اللثام عن المظلمة؛ فشدّ بعض زملائهم من البيظان إصرهم وبدأت محاربة الاسترقاق في موريتانيا، بالقول والفعل.

كان ذلك قبيل الاستقلال ثم استمر حتى اليوم بوتائر متفاوتة الحدة والتسارع.

لست في هذا المقال بصدد التأسيس لخطاب فئوي ولا حل سياسي ولا تحليل سوسيولوجي ولا آنتروبولوجي؛ لكني سأسلط الأضواء على جوانب أراها مفيدة لمستقبل المجتمع والدولة في موريتانيا.

ظهر مفهوم لحراطين، وهم رجال ونساء من النسيج الثقافي الحساني لهم نفس القبائل ونفس العادات ونفس المعتقدات مع البيظان؛ لكن تم تصويرهم أو هم كذلك على أنهم أحفاد العبيد السابقين.

منهم من لم يمارس عليه الرق ولا على أسلافه وهم الأكثرية بحكم العامل الزمني وعوامل أخرى، ومنهم من مورس عليه أو عايشه في أسرته وهم قلة ومنهم من مارس الرق على غيره وهم الأقل. كما أن من بين لحراطين أنفسهم من هو ذو خؤولة من البيظان ومنهم من له أحفاد أو أسباط من البيظان.

أثبت المؤرخون أن الرق في هذه البلاد كان أشبه بالملكية العقارية رغم خضوعه في جانبه التسييري لمسحة فقهية لينت وطأته وأبعدت عنه الشبهة ولو لحين.

فمن القبائل من أصبحت رقيقة بين عشية وضحاها في الزمن الغابر بسبب هزيمة في حرب أو مجاعة أو نزوح أو غيره.

وما يهمني هنا هو تلك الحال المأساوية التي وجدنا عليها أنفسنا بسبب ذلك الدفاع المستتر لبعضنا عن واقع غابر لا بواكي له؛ والمغالاة المستميتة للآخر في جلد المجتمع والسلطة في ماض خلف واقعا أكبر منه ومنهم.

الحقوقيون هم ملائكة المرحلة بامتياز، خصوصا من منهم أخلص النية في خلاص الناس من تلك التركة المعقدة، فاستخدم التدرج والحكمة والمعالجة بالحسنى ووضع العقل في الواجهة؛ رغم أن بعضهم يعتبر الأمر أكبر من أن يعالج في صمت.

والسياسيون منهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد؛ يودون أن يكون الحل بهم ولهم ويمتصون كلام الحقوقيين ويريدون أن يكونوا مقبولين في الشأن العام.

نخبة البيظان في غالبيتها العظمى تعتبر انتماء لحراطين إلى النسيج البيظاني مسلمة، دون أن توافق على اندماجهم معها بشكل واضح؛ فبعض من هذه النخبة من له أصدقاء وأقرباء وأبناء عمومة من لحراطين يرافقونه في السر والعلانية، يسامرهم ويسامرونه؛ ولكن بعضا منهم باء ويبوء بغضب وإقصاء من قبل تلك الجهة المجهولة الوصية على "اتبيظين".

وكذلك الحرطانيات من النساء قليلات المصادقة في صفوف نظيراتهن من "البيظان".

وفي نفس الوقت حين تسمع نخبة لحراطين تنادي بثقافة حرطانية مستقلة، تستخدم قاموسا مستقلا وتتدثر بوجدان متميز عناوينه: المدح وانيگور (الرقص بالعصى) وادرگ (مضمار المصارعة) والرگ (مضمار سباقات الحمير) وبنچه (الموسيقى غير المنغمة)... إلخ ترى نخبة البيظان صرعى يأخذون على لحراطين أنهم يريدون أن يستقلوا عن وجدانهم المشترك مع البيظان!.

كل ذلك ولا أحد من نخبة البيظان يتساءل عن السبب، الذي هو من البداهة بمكان. إنه سفه نخبوي بيظاني في تقبل لحراطين؛ نريدهم منا دون أن نكون منهم؛ نريد أن يقبلونا دون أن نتقبلهم.

مخطئ - في نظري - كل من أنكر وجود حالة عبودية متكاملة الأركان اليوم في موريتانيا، ومخطئ من ظن أن كشفها هو ضد جهة أو عرق أو قبيلة، ومخطئ من ظن أن الحقوقيين الجادين هم عبيد لمؤامرة دولية؛ لأننا ببراءة لطالما تآمرنا على أنفسنا، لكن بالمقابل مخطئ من ظن أن مجرد كون لون جسده غير فاتح البياض أو غير أسمر يمكن أن يعصف بأرحام وقيم وأواصر مجتمع صهرته الأيام ووحدته الآمال والآلام.

سينقسم قراء هذه السطور بين مزايد ومكابد على تخوين كاتبها وتأييده، سيُرمى بالشعوبية أو"الجذب" لكنها أحاديث البعض وأحاسيسهم عشتها شفهيا وأردت الإبقاء عليها كتابيا، في زخم تدويني عن الرق والاسترقاق والعبودية والاستعباد و(آثارها) يعيشه مجتمعنا الموريتاني البيظاني في بدايات القرن الواحد والعشرين تتمايز فيه السحنات وتتحد فيه الدموع.

لم أتحدث عن الرق في المجتمعات الإفريقية الشريكة في الوطن، ليس لأنه لا يهمني، لكن لأنه خارج عن الزاوية التي نصبت من خلالها قلمي هذه المرة.

وتبقى المشتركات العظمى في المجتمع الموريتاني هي المآل والخلاص والمرتكز، الدين الإسلامي والمنظومة القيمية الخالدة التي يحملها من فريضتي صلة الرحم وإكرام الجار مرورا بصلاة الجماعة وأخوة المسلم للمسلم.

كما أن تقوية الدولة دولة القانون وليست دولة الجماعة أو الجهة، ثم نشر ثقافة حقوقية متسامحة تنبذ الشطط وتثمن كل جميل في الموروث ضمان.