قاض موريتاني يدعو إلى تنقية الكتب الفقهية المعتمدة

اثنين, 2015/04/06 - 07:57

دعا القاضي أحمد ولد عبد الله إلى تنقية الكتب الفقهية المرجعية في موريتانيا وقال القاضي في مقاله إن عددا من الأحكام والأبواب المتداولة في كتب الفقه المعتمدة لم تعد لها ضرورة ولم تعد لها صلة بالواقع

المقال

 

الخُطْوَةُ المُوَّالِيَّة: طبعات وطنية تنقيحية للكتب الفقهية المرجعية..

 

 

1 ـ تأتي فتوى رابطة العلماء الموريتانيين ـ المؤسسة على فتوى كبار العلماء سنة 1981 ـ بشأن انتفاء الشرعية عن حالات الاسترقاق المحتملة في بلادنا، في إطار خطوات تأسيسية غاية في الأهمية لمحاربة الظاهرة المقيتة ومخلفاتها..

ومن تلك الخطوات اعتبار الرق جريمة ضد الانسانية في المستوى الدستوري، وتجريم ومعاقبة ممارسته من جوانب مختلفة شاملة في قوانين جنائية خاصة، يجري تَحْيِينُها باستمرار، وإنشاء محاكم متخصصة لإنفاذ تلك القوانين..

مع الخطوات المنصبة على مكافحة مخلفات الظاهرة اجتماعيا واقتصاديا من خلال التمييز الإيجابي في البرامج التنموية الحكومية..

على أن من مخلفات ظاهرة الاسترقاق رواسب ذهنية وسلوكية سلبية، ليست لدى الضحايا فقط، بل لدى المُمَارِسِين السابقين، تتعين محاربتها ببرامج تثقيفية وتوعوية.. 

ـ يمكن لفتوى رابطة العلماء ـ على مرجعيتها ـ أن تتعزز بفتاوي إضافية مماثلة، أو تزكيات وتسليم من علماء مرجعيين خارجها، وحبذا لو تكفلت رابطة العلماء، والعلماء خارجها بمناقشة رجال العلم والفتوى المحليين، المقيمين في مناطق البلاد المختلفة المقلَّدين من طرف العامة في مناطقهم، لإقناعهم بإصدار فتاوي محلية مماثلة، أو تزكية فتوى رابطة العلماء، وقبولهم بتوجيه العامة بمقتضاها في مراجعاتهم اليومية..

2 ـ لا شك أن الفقه الاسلامي، في شقه الذي يسميه بعض الباحثين والدارسين الفقه التقليدي، أو التراث الفقهي، في المجال الموريتاني أو خارجه، لن تَلْصَق به تهمة تأسيس ظاهرة الاستعباد الظالمة، وإن كانت أحكامه النظرية أسقطت في البلاد قديما على حالات استعباد غير شرعية..

وقد يفسر ذلك الاسقاط الفاسد الموقفَ المعادي عند بعض ضحايا الاستعباد القسري الظالم من المنظومة الفقهية التقليدية، الموقف الذي يزداد سلبية للأسف، ومن يضيق به صدره، يجب أن يتسع ذرعه لجهود معالجته..

3 ـ نعلم جميعا أن الفقه خلاصة اجتهادات وآراء العلماء حسب الحاجة في الزمان والمكان المُخْتَلِفَيْن، وإن كان يتفرع عن أصول ثابتة لا تتغير..

ولذلك كان لكل أهل مصرٍ من العالم الاسلامي فقههم المطبوع بخصائص بلادهم ومجتمعهم،  وهو متغير حسب الأحوال والمستجدات..

ـ قال الإمام ابن القيم رحمة الله عليه في "إعلام الموقعين/ الجزء الثالث/ الصفحة 337 من نسختي" << فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد >>، ثم قال << هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة ما لا سبيل إليه، يُعلم أن الشريعة الباهرة التي هي في أعلى مراتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل..>>..

ـ قال الإمام القرافي رحمه الله تعالى في "الفروق/ الجزء الأول/ الصفحتان 176 ـ 177 من نسختي/ الفرق الثامن والعشرون": <<.. فما تجدد في العرف اعْتَبِرْه، وما سقط اسْقِطْه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك..>>، إلى أن يقول <<..فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين..>>..  

4 ـ كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الناس "أن لا يجلد أحد من المسلمين حدَّا وهو غاز حتى يقطع الدَّرْبَ راجعا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار"، للأحاديث الواردة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان تطرق هذا الاحتمال يوقف حدود الله المقطوع بها، فكيف باجتهادات فقهية يمكن أن تؤثر على علاقة آلاف المسلمين بالإسلام، وقد قطع العدو "الدَّرْبَ" إلى المسلمين، وأصبح الكون في حكم القرية الواحدة؟؟..   

5 ـ كان من منهج الصحابة رضوان الله عليهم الإعراض عن الفتوى فيما لم يقع، رُوي ذلك عن عمر بن الخطاب وأُبي بن كعب وعمَّار بن ياسر وأبو الدرداء رضي الله عنهم، فقد كان عمر يقول: "إياكم وهذه العُضل"، ويقول: "لا يحل لكم أن تسألوا عما لم يقع"، وكان أُبَيُّ بن كعب يقول: "اعفونا حتى يكون"، وكان عمَّار بن ياسر يُسأل عن المسألة فيقول: "أكان هذا بعد"؟، فيقولون: لا، فيقول: "فدعوها حتى تكون، فإذا كانت تجشمناها لكم"..

وكان هذا من منهج الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، فلم يكن يفتي فيما لم يقع، وكان يعده مما لا يُنتفع به، ويحجم عن المسألة، ويقول: "لم نبتل بعد بهذا في أرضنا"..

ويجوز أن يقاس على حكم ما لم يقعْ، ما وقعَ، ثم أرتفع من واقع الناس في منطقة أو مناطق مختلفة، فيرتفع معه حكمه الاجتهادي.. "إذا ارتفعت العلة أرتفع الحكم"..

6 ـ نجد عند كثير من الفقهاء ومنهم متقدمون كابن رشد الحفيد مثلا نظرة نقدية للفقه الافتراضي الذي لا يقع على واقع، فيبقى في حكم المُتَخَيَّلِ، والمقام يضيق عن التمثيل، كما نجد عنده نظرة نقدية للتبويب الفقهي المتواضع عليه..

ـ وقد دأب الفقهاء على مراجعة الفقه للتعاطي مع نوازل استجدت، أو لتجاوز أحكام لم تعد الحاجة تدعو إليها، والأمثلة أجل من الحصر..

7 ـ الشيخ خليل رحمة الله عليه، حين ألف مختصره الشهير المعتمد في بلادنا، خالف نسق التأليف لدى كثير من المتقدمين عليه، بعدم التبويب للعقيدة في بداية مختصره، لأن الاشكاليات العقَدية لم تكن ملحة في زمانه، ليأتي بعد ذلك العلامة الجليل الشيخ محمد سالم ولد عَدُّودْ رحمة الله عليه فيعقد المختصر مضيفا له بابا في العقيدة رأى أهميته وضرورته لدارسيه في عصره..

ـ الشيخ خليل أيضا في مقدمة مختصره أشار إلى أنه يبين "لما به الفتوى"، باعتبار زمنه، ويخرج من ذلك كثير من الفقه تجاوزته المرحلة..

8 ـ العلامة الجليل محمد مولود (آدَّ) ولد أحمد فال اليعقوبي رحمة الله عليه في عرضه لمنهجه في الكَفَاف قال:

مُبَيِّنًا لِمَا بِهِ الْبَلْوَى تَعُمْ ـ ـ لِأَمْرِ الْأَشْيَاخِ بِأُثْرَةِ الْأَهَمْ

لَا مَا اسْتَبَدَّ بِبِلَادٍ نَائِيَّة ـ ـ كَالجُمُعَاتِ وَشِرَاءِ الْأهْوِيَّة

ـ الشيخ محمد الحسن ولد أحمدو الخديم اليعقوبي، قال في "مرام المجتدي" على الكفاف، شارحا قول المؤلف الآنف: << فلم يتعرض رحمة الله عليه لما لا يقع ببلاده كما ذكر، أو يقع نادرا كالحج، لذمهم الاشتغال بأحكام نادرة الوقوع..>>..

ـ هذا علَّامة جليل، ترك الحديث في كتابه المرجعي النفيس عن فقه الجُمعة والحج على مركزيتهما في الاسلام، مع أبواب أخرى من الفقه، لأن أهل بلاده في زمانه غير محتاجين لها غالبا، وقد تغير الحال اليوم، فأصبحت أحكام الحج والجمعة وشراء الأهوية مما يحتاجه الناس في بلادنا، ألا يبرر هذا ترك أبواب فقهية أخرى لم تعد الحاجة إليها قائمة؟..

ـ سُقْتُ هذه الحجة مرة لأحد الزملاء في نقاش خاص في وقت سابق، فأقنَعَتْهُ في الأول، ثم استدرك "إذا تركنا هذه الأحكام ألا ترانا ندخل ورطة إذا استجد جهاد شرعي بين المسلمين والكفار نتج عنه رق"، قلت له قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إياكم وهذه العُضل، فإنها إذا نزلت بعث الله لها من يقيمها أو يفسرها"، وأضفت: إن الأصول المُحكمة في المسألة في الوَحْيَيْنِ باقية ثابتة، يَرُدُّ إليها فقهاء كل زمن ما نزل بهم، ويستخرجون عليها أحكامه، وهذا من كمال الشريعة..   

ـ في الواقع يعلم الكثيرون أن شيوخ المحاظر الموريتانية، وطلاب العلم فيها، تركوا تدريس ودراسة أبواب من الفقه لعدم الحاجة إليها في حياة الناس اليوم..

ـ مما تتناقله الحكايات الشفهية أن مجموعة من المجتمع الموريتاني قديما، لبثت أربعين سنة لم يمت منها أحد لصحة الأرض التي تقيم بها فتركوا تعلم فقه الجنائز..

9 ـ في التاريخ الاسلامي لا تعد ولا تحصى كتب السلف التي تَعَرَّضَ لها الخلف بالإضافة والحذف والاختصار خدمة لها، حسب مقتضيات الواقع المختلفة، وفي العصر الحديث أتاحت آليات التحقيق وإعادة الطبع والنشر كثيرا من ذلك..

ـ من الأمثلة القريبة في هذا الاتجاه ما قام به الجامع الأزهر في مصر، من مراجعة مناهجه، وحذف أبواب الرق والعبيد وملك اليمين من كتب الفقه المعتمدة لديه، تنفيذا لتوصيات لجان علمية من كبار العلماء فيه..

بناء على هذه الحقائق الواضحة في مناهج الفقهاء المتقدمين والمتأخرين، وفي ضوء ما جاء في فتوى رابطة العلماء الموريتانيين، وفحواهُ أن الرق لم يعد مما يقع ببلادنا، ويقتضي ذلك أن أحكامه لم تعد مما يحتاجه الناس من الأحكام، مما نرجو معه أن يرتفع  الابتلاء به من أرضنا..

تكون الْخُطْوَةُ الْمُوَّالِيَّة ضمن الجهد الوطني لمحاربة الظاهرة المقيتة إصدار طبعات وطنية للكتب الفقهية المرجعية، محققة ومنقحة، تستثني الأبواب المتعلقة بالرق وملك اليمين..

فوجود طبعات وطنية من الكتب الفقهية المرجعية المعتمدة مهم للغاية، وآن له أن يتحقق، بدل الاعتماد على الطبعات "المستوردة"..

 ومراجعتها على هذا الوجه للوفاء بالمطلب المذكور يقتضيه فقه المرحلة، والمبررات العلمية والمنطقية المقبولة المنقولة، ويجسد مضمون فتوى رابطة العلماء، وينسجم مع مقتضيات الدستور والقوانين الوطنية..

يمكن لجهود متضافرة من رابطة العلماء ووزارة الشؤون الاسلامية، وهيئة الفتوى والمظالم (كجهات للإشراف والبحث والتحقيق والتصحيح)، ووكالة التضامن (كجهة للتمويل) أن تجسد هذه الخطوة واقعيا..

دَعُونا بهذا نُقَلِّدُ شيخنا وعالمنا محمد مولود ولد أحمد فال اليعقوبي، فيما هو لنا أسلم، ونعدل إلى أمر "الأشياخ بِأُثرة الأهم"..          

           

       القاضي: أحمد عبد الله المصطفى

            القاهرة